جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

سوناك والمغامرة المفاجئة

استمع إلى المقالة

المقصود بالقول: «الحربُ خدعة»، أن تخدع عدوك. لكن رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك، يوم الأربعاء الماضي، ذهب بالقول مذهباً غير مطروق من قبل، حين قرر أن يخدع أصدقاءه وخصومه على السواء، بمفاجأتهم جميعاً، في وقت واحد، بإعلانه يوم 4 يوليو (تموز) موعداً للانتخابات النيابية العامة.

في اليوم التالي للإعلان، كشفت التقارير الإعلامية أن عدداً من أعضاء الحكومة، والمسؤولين في الحزب، ونواب الحزب في البرلمان أُخذوا بالمفاجأة، وأُصيبوا بالارتباك. وعلى أي حال، الإعلان فاجأ الجميع، باستثناء السيد سوناك، ونائبه، وعدد صغير ممن يحيطون به من مستشارين.

أخيراً، قرر رئيس الحكومة وزعيم الحزب ريشي سوناك أن يضع نهاية للتكهنات والتوقعات، واختار يوم 4 يوليو المقبل ليكون يوم المواجهة، مع علمه المسبق بأنَّ «العماليين» بقيادة السير كير ستارمر يسبقونهم في استبيانات الرأي العام بـ20 نقطة. زد على ذلك أن عدد النقاط الفاصلة ازداد نقطة في اليوم التالي للإعلان لصالح حزب «العمال».

وبإعلانه الموعد، وضع السيد سوناك مستقبله السياسي بأيدي الناخبين. وقبل هذا وذاك، جاء الإعلان ليضع نهاية لواحدة من أسوأ الفترات البرلمانية التي شهدتها بريطانيا. 3 رؤساء حكومات في 5 سنوات، ليس بينهم سوى واحد منتخب. وآخر لم يصمد في المنصب أكثر من 50 يوماً، وكاد يتسبب في انهيار اقتصادي. والأخير منهم جاء ليلعب دور المنقذ والمخلِّص، إلا أن التركة الموروثة كانت أكبر وأثقل مما يحتمل ومما يستطيع، رغم كل ما بذله من جهود.

الإعلان عن موعد الانتخابات يعني كذلك أن السيد سوناك اختار توقيت المعركة، بعد تفكير وتمحيص، بعد أن تبيَّن له أن مزيداً من التأجيل قد يودي بالجَمل وما حمل. وبالتأكيد، فهو يعلم مسبقاً أن خسارته قد تؤدي به وبـ«المحافظين» إلى دخول صحراء التيه السياسي، بالجلوس على مقاعد المعارضة في البرلمان، لمدة لا تقل عن 10 سنوات، حسب توقعات المراقبين.

المسافة الزمنية بين يوم الإعلان (22 مايو «أيار» 2024) ويوم الانتخابات (4 يوليو 2024) ربما تقارن بمسافة الـ26 ياردة في لعبة الكريكيت، الفاصلة بين اللاعب الذي يقذف بالكرة وبين الآخر الذي يحاول التصدي لها وإبعادها عن إصابة الهدف. تلك المسافة يراها الرامي بعيدة جداً، ويراها المتصدي قريبة جداً. والمعنى أن أحزاب المعارضة ترى المسافة الزمنية التي تفصلها عن الانتخابات بعيدة جداً، وتتمنى أن تكون أقصر، تفادياً لأشياء كثيرة. في حين أن الحزب الحاكم يراها قريبة جداً، ويتمنَّى أن تطول، كي يلحق بأحزاب المعارضة، ويتمكن من تجسير الهوة التي تفصله عنها في استبيانات الرأي العام، من خلال الوصول إلى أكبر عدد من الناخبين في كل البلاد.

الإعلان عن موعد الانتخابات يعني أن يقفل النواب البرلمانيون مكاتبهم البرلمانية في قرية ويستمنستر- لندن، وينضمون على وجه السرعة إلى قوافل الحملات الانتخابية في دوائرهم، في مختلف أنحاء البلاد. وهم جميعاً، في كل الأحزاب، سوف يجدون أنفسهم في سباق مع الزمن، وفي تنافس شديد، من أجل الحفاظ على مقاعدهم البرلمانية. الناجحون منهم سيعودون إلى البرلمان، والفاشلون سيغادرونه.

التقارير الإعلامية البريطانية تؤكد أن 70 نائباً «محافظاً» أعلنوا عن عزمهم عدم خوض الانتخابات، وقرروا اعتزال الحياة البرلمانية. 5 منهم أعلنوا عدم ترشحهم للانتخابات المقبلة، بعد خطاب السيد سوناك، يوم الأربعاء الماضي.

هزيمة حزب «المحافظين» أمر محتمل جداً، باتفاق أغلب المراقبين ونتائج استبيانات الرأي العام، وفي الوقت ذاته، هناك احتمال ضعيف ألا يتمكن «العماليون» من الحصول على أغلبية برلمانية تؤهلهم لحكم البلاد وحدهم، وربما يجدون أنفسهم مضطرين للدخول في ائتلاف مع «الديمقراطيين الأحرار» أو غيرهم؛ هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل التركة التي سيورِّثها «المحافظون» لمن سيتولى الأمور من بعدهم. وهي تركة ثقيلة من الأزمات تراكمت على مدى 14 عاماً، زادتها صعوبة أزمة «بريكست»، وأزمة الوباء الفيروسي «كوفيد».

أبرز ما سيواجهه الساكن البديل عن الحالي في «10 دواننغ ستريت» إعادة وضع الاقتصاد على قدميه بهدف النمو، ومشكلة إيقاف قوارب المهاجرين عبر القنال. وحتى الآن -حسب اطلاعي- لم يقدم «العماليون» برنامجاً اقتصادياً مقنعاً كما يؤكد أهل الاختصاص، وتعاملوا مع أزمة قوارب المهاجرين بالاكتفاء بمهاجمة سياسة «المحافظين»، ومن دون بديل، سوى التعهد بإلغاء سياسة ترحيل المهاجرين إلى رواندا. أضف إلى ذلك الأزمات في القطاع الخدمي، وخصوصاً في قطاع الصحة الذي وصل مرحلة تقترب من الانهيار خلال السنوات الأخيرة، وقطاع التعليم، وأزمة تلوث مياه الأنهار بمياه المجاري العامة. والأهمّ من ذلك، الحفاظ على مكانة الحي المالي بلندن في العالم.

الأسابيع الستة القادمة ستكون حبلى بكثير من المفاجآت؛ إذ لا أحد يستطيع التكهن بما سيحدث من تطورات.