يعيش لبنان كارثة غير مسبوقة منذ تشكيل الكيان اللبناني قبل مائة عام. وكارثة لبنان متعددة المجالات والموضوعات والأسباب، والأهم أنها تمضي مثل كرة ثلج في منحدر، تتراكم فيها المشكلات واحدة بعد أخرى وتتعمق وتتأصل. ومع الوقت يغرق لبنان وأهله، بل يأخذ معه جيرانه، الذين لا يستطيع عاقل تصور أن شرق المتوسط سيكون ذات صباح دون لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وآخرين، وغالباً فإن أخذ الجيران إلى الكارثة يتم دون مبررات، وإن كان بعضها قائماً، فهو لا يستحق كل هذا العسف والعنصرية والإرهاب الذي يمارسه البعض، ويغرق فيه بعض آخر، ومن الظاهر أنه أكثر من المتوقع.
مشكلات لبنان الكبرى كثيرة، لعل الأبرز، والأخطر فيها، غياب التوافق اللبناني حول المسائل الأساسية، سواء ما كرّسه آباء الاستقلال اللبناني، أو توافق عليه قادة الحرب الأهلية في الطائف، وزاد على غياب التوافق تكريس الانقسامات، التي باتت انقسامات عمودية وأفقية متعددة ومتنوعة، لا تمنع اتفاقاً شاملاً فحسب، بل هي تحدّ من الاتفاقات المرحلية، وتدمر ما تم منها، وتعيد مختلف الفرقاء إلى المربعات الأولى، وهكذا صار لبنان دون رئيس، تديره حكومة تصريف أعمال، لا شرعية لها ولا قدرة، وغارقاً في أزمات مستعصية.
والمشكلة الثانية أن غياب التوافق وتكريس الانقسام وسط بيئة إقليمية خلق وقائع سياسية وميدانية، صار من الصعب تجاوزها على الأقل في أمرين، أولهما التوافق الكلي الذي لا يمكن أن يتم في وجود ثلث معطل، بل هو يتناقض معه في تعطيل مصالح الثلثين، والأمر الثاني تكريس قوة ميليشياوية مسلحة خارج إطار الدولة وجيشها، بل إن مرجعية تلك القوة وفّرت لها قدرات وإمكانات تعتمد على مرجعية إقليمية، وجعلتها خارج أي مراقبة أو مساءلة، ولم تسعَ في الوقت نفسه لأخذ حصة من النفوذ والسيطرة على الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية طبقاً لمبدأ المحاصصة فقط، بل تحويلها إلى أدوات تخدمها طالما استطاعت، على نحو ما تفعل في التعامل مع البرلمان اللبناني.
وسط مشكلات لبنان الكبرى، تولد أزماته، التي باتت اليوم أكثر من أن تعد وتحصى، وبينها أزمة الكهرباء، وأزمة النفايات، وأزمة القضاء، وأزمة المصارف، وأزمة مرفأ بيروت، وأزمة اللاجئين السوريين. ورغم أن بعض الأزمات تقنية - فنية، فإن ما صار إليه الوضع اللبناني سيّس تلك الأزمات وحوّلها كلياً أو في بعض منها إلى منافع للجماعات والزعماء المؤثرين في الحكم والمجتمع، ما كرّس تعايش وتآخي حياة اللبنانيين مع الأزمات.
واحدة من أزمات اللبنانيين لها خصوصية، وأستطيع القول إنها خصوصية معقدة، وهي وجود اللاجئين السوريين في لبنان. وقبل الحديث في خصوصياتها، لا بد من قول إن مسألة اللجوء إلى بلد أو بلدان مجاورة هو سلوك طبيعي في كل العالم، حيث يهرب أو يجبر على الهروب سكان من بيوتهم وممتلكاتهم إلى بلد مجاور. وحفظ القانون الدولي والإنساني هذا الحق لكل اللاجئين في العالم. وأن يذهب السوريون إلى لبنان أمر طبيعي، ليس بسبب روابط تاريخية وثقافية واجتماعية، بل ثمة سوابق من لجوء لبنانيين إلى سوريا في عقود الحرب الأهلية وحروب إسرائيل على لبنان. وثمة سبب آخر، وهو أن أغلب اللاجئين كانوا من مناطق في ريفي دمشق وحمص، اجتاحتها ميليشيات لبنانية تنتمي إلى «حزب الله» وغيره، وما زالت تحتل بيوتهم وأراضيهم، وثمة سكوت لبناني واسع على تلك الجرائم.
وهناك نقطة مهمة في موضوع اللاجئين السوريين، لها ارتباطات متناقضة بالواقع اللبناني. إذ يرى البعض أن اللاجئين امتداد لما في ذاكرته عن حقبة الوجود السوري، وما خلّفته من مآسٍ، متناسياً أن اللاجئين ضحايا نفس النظام، وأن السوريين ضغطوا مرات من أجل خروج جيش «النظام» ومخابراته من لبنان. فيما فريق لبناني يناصر النظام، يرى اللاجئين عدواً يستحقون ما يلحق بهم في سوريا وفي لبنان. ولعب تزامن مجيء اللاجئين مع أزمات لبنان العاصفة، خاصة الأزمات الاقتصادية والمعيشية، ثم طول الفترة، جميعها إلى تزايد حضور الأزمة في حياة اللبنانيين، ولا سيما أن فئات ذات مصلحة سياسية جعلتها مركباً للظهور والحظوة بمكانة شعبية، ولو قامت على آلام ضحايا.
لا يتمنى أي إنسان سويّ، ولا سيما جيران لبنان، وخاصة السوريون، أن يرى الحملة وتداعياتها على السوريين، وما تكلفهم من أعباء إنسانية ومادية، خاصة عمليات تسليم سجناء ومعتقلين ومطلوبين إلى سلطات النظام، وهم يعرفون أن مصيرهم الاعتقال، وغالباً الموت تحت التعذيب، ويعرفون أن آثارها على اللبنانيين سيئة. إذ تأخذ المشاركين فيها والداعمين خارج إطار التحضر والقيم الإنسانية والأخلاقية، وتشيع النزعات العنصرية، وتكرس ارتكابات وحشية وإجرامية، وتأخذ اللبنانيين خارج صورة بلدهم، الذي عرفه العالم باعتباره «سويسرا الشرق» عند تأسيسه، حيث كان بلد الحريات والثقافة والعلم والفن والمال والسياحة، قبل أن يأخذه البعض إلى المشكلات والأزمات، نحو الأحقاد والسلاح والدمار، والتبعية لمن هو خارج حيزه الإنساني والحضاري.