كشفت دراسة نفسية حديثة نُشرت في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، عن احتمالية أن يكون عدم الاستجابة العصبية للمكافأة والتقدير بمثابة علامة مبكرة على خطر الإصابة بالاكتئاب، ودلالة على النظرة السلبية إلى الذات. وأوضح الباحثون أن هذا السلوك لا يرتبط بعمر أو جنس.
ونُشرت الدراسة في الإصدار الإلكتروني من مجلة الطب النفسي الحيوي وعلم الأعصاب «Biological Psychiatry: Cognitive Neuroscience and Neuroimaging».
اضطرابات المزاج
تُعد اضطرابات المزاج والقلق بين المراهقين مؤشراً مهماً على صحتهم النفسية لاحقاً. وعلى وجه التقريب فان 50 في المائة من الأطفال الذين عانوا من نوبة واحدة فقط من الاكتئاب أو القلق سوف يصابون بنوبة ثانية لاحقاً قبل البلوغ. ومن بين الذين عانوا من نوبتين سوف تصاب نسبة منهم تبلغ 80 في المائة بنوبة ثالثة أو أكثر. ولذلك من المهم معرفة علامات الاكتئاب مبكراً حتى يمكن حمايتهم من الإصابة المزمنة.
قام الباحثون في جامعة كالغاري «University of Calgary, Alberta» بألبرتا في كندا بمتابعة مجموعة مكونة من 145 مراهقاً (64.8 في المائة منهم إناث) جميعهم لديهم تاريخ عائلي من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب و القلق، وهو الأمر الذي يعرضهم بنسبة عالية لخطر الإصابة بالأمراض النفسية. وكانت العائلات المشاركة جزءاً من دراسة الجامعة لبرنامج معين عن المخاطر المحتملة لاضطرابات المراهقين النفسية على المستويات البيولوجية والنفسية والاجتماعية (CBRAID) كافة. وهذا البرنامج بحثي طولي يفحص عوامل الخطر السابقة للمرض لبداية ظهور الأعراض في مرحلة المراهقة.
وتابع الباحثون المراهقين لمدة تسعة أشهر ثم لمدة عام ونصف لمعرفة وتقييم ما إذا كان المشاركون قد أُصيبوا بأي عرض واضح ورئيسي للاكتئاب (major depressive disorder) سواء قام المراهق بذكر العرَض أو من خلال ملاحظات من المحيطين به مثل: تغيير المزاج، والشعور بالحزن معظم الوقت، وفقدان الاهتمام بالأنشطة المحببة، وعدم الاستمتاع بها في حالة ممارستها، وحدوث خلل في نمط النوم سواء النوم لساعات طويلة أو الإصابة بأرق شديد، وكذلك تغير كبير في الشهية بالزيادة والنقصان، والشعور المزمن بالتعب البدني وفقدان الطاقة، والشعور بعدم القيمة، وكذلك الشعور الدائم بالذنب من دون سبب واضح، إلى جانب التفكير في الموت باستمرار والرغبة في التخلص من الحياة.
ووجد الباحثون أن الاستجابة السلبية غير المتفاعلة والمرحِّبة بالمكافأة رد فعل غير طبيعي يجب أن يلفت نظر المحيطين بالمراهق في المنزل والمدرسة. والمكافأة هنا ليست بالضرورة مادية أو ملموسة ولكن يمكن أن تكون معنوية مثل كلمة ثناء سواء من الأقران أو المدرسين أو مجرد الشعور بالفرح عند أي إنجاز حتى لو كان بسيطاً مثل الفوز في لعبة بسيطة.
تغيرات بيولوجية في المخ
رصد الباحثون انفعالات المراهقين العصبية عن طريق إجراء رسم للمخ (EEG scan) في أثناء قيامهم بلعب لعبة معينة، حيث قيل للمراهقين إما إنهم فازوا وإما إنهم خسروا في هذه اللعبة، وراقبوا شعورهم بالفرح والحزن. وأوضح الباحثون أن عدم التفاعل مع الفوز بالفرحة يُعد مؤشراً على بداية الاكتئاب، ولكن لا يُعد مؤشراً على الإصابة بالقلق أو الإقدام على محاولة الانتحار، مما يعني أن المراهقين الذين لا يشعرون بالمتعة أو الرضا عند تلقي المكافآت هم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب لأول مرة في حياتهم، لذلك يجب تقديم الدعم النفسي لهم.
وقال الباحثون إن الاكتئاب والانتحار مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. وليس معنى أن المراهق لا يفكر حالياً في الانتحار أن الحالة لا تستحق الاهتمام الكافي لأن المشكلات النفسية التي تبدأ في الأغلب خلال فترة المراهقة تستمر لاحقاً في البلوغ تبعاً للدراسات السابقة. لذلك يجب عدم الاستخفاف بهذا العَرَض (عدم الفرحة لمكافأة معينة) أو التعامل معه على اعتبار أنه نوع من النضج، ولكن يجب التعامل معه بوصفه سلوكاً مَرَضياً (حتى لو كان في بدايته) يتطلب العلاج.
وأوضحت الدراسة أن التغيرات البيولوجية في المخ (الممثلة في ضعف الاستجابة العصبية للمكافآت) تسبق ظهور أعراض الاكتئاب عند المراهقين. وبالتالي يجب أن يتم فحص المخ في حالة الاستجابة العصبية الضعيفة (الدائمة) للمكافأة حتى لو كان المراهق لا يعاني من مشكلات نفسية لأن الشعور بالفرحة والتفاعل مع الثناء يمكن اعتباره أقرب ما يكون إلى السلوك الفسيولوجي الطبيعي لوجود مراكز معينة في القشرة المخية يزيد فيها النشاط العصبي عند الإطراء والشعور بالإنجاز خصوصاً عند المراهقين، وهو الأمر الذي يفسر إقدام المراهقين على فعل أعمال خطيرة لمجرد نيل الإعجاب.
وأكد الباحثون ضرورة الاهتمام بشكل خاص بالأطفال الأكثر عرضة للإصابة مثل الذين لديهم تاريخ عائلي للإصابة بالاكتئاب أو أي مرض نفسي آخر سواء للأب والأم أو الأخوات. وفي حالة عدم استجابة هؤلاء الأطفال للمكافأة يمكن استخدام أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لفحص نشاط القشرة المخية لأن انخفاض النشاط في الاستجابة للمكافأة يتنبأ بدرجات أعلى من أعراض الاكتئاب بعد عامين لدى المراهقين.
وقال الباحثون إن رد الفعل الإيجابي للمكافأة يُعد مقياساً عصبياً يعكس نشاط المخ، وهو ضروري لضبط المزاج والانفعالات المختلفة، وبالتالي فإن ضعف إيجابية المكافأة يشير إلى تراجع المزاج، مما يقلل من الميل إلى الانخراط في أنشطة جماعية ضرورية للحفاظ على التوازن النفسي خلال فترة المراهقة بشكل خاص.
ونظراً لأن المراهقة فترة تتميز بالقلق بطبيعة الحال بسبب النضج البدني وتطور المخ والتغيرات الاجتماعية والنفسية، لذلك فإن انخفاض حساسية المكافأة قد يؤدي إلى تفاقم التأثيرات الضارة للقلق مما يسهم في تطور الاكتئاب.
* استشاري طب الأطفال