إذا كان الاستعمار، بما فيه الاستعمار الاستيطانيّ، موضوعاً مطروحاً بحدّة ووحشيّة باديتين على فلسطين والفلسطينيّين، فهذا لا يعني أنّ «نزع الاستعمار»، أو «الديكولونايزايشن» بحسب التعبير الأنغلو أميركيّ الشائع، موضوعٌ مطروح على سكّان البشريّة قاطبة. والحال أنّ هذا الافتراض يتناقض أصلاً مع القول الرائج إنّ الفلسطينيّين يعانون «آخر استعمار في التاريخ».
بيد أنّ تعميم الاستعمار ونزعه يُصوَّر اليوم كأنّه حكمة شائعة بل صورة فوتوغرافيّة عن شكل العالم. فعن «نزع الاستعمار» تصدر كتب وتُكتب مقالات وتُعقد مؤتمرات، وبه تصدح الحناجر في التظاهرات، ولأجل تدريسه تُعدّل مناهج التعليم في جامعات عريقة.
فهل العالم مُطالَب إذاً بالانخراط مرّة أخرى في حركة استقلاليّة لطرد الاستعمار؟
ثمّة «ما بعد استعماريّين» يستدركون قائلين: ما يعانيه العالم «غير الأبيض» هو، هذه المرّة، استعمار من خلال الثقافة. ذاك أنّ الاستقلالات السياسيّة تحقّقت فعلاً إلاّ أنّ المطلوب التصدّي لما فعله تاريخ الاستعمار ولا يزال حاضره يفعله. فهو حوّل هويّاتنا عن ذاتها وحوّلنا عنها، كما فرض علينا، ويفرض، الشروط التي صرنا بموجبها نرى الذات والعالم. فمن خلال أنظمة التعليم والصناعة الثقافيّة والإعلام تشكّلَ منظور استعماريّ لا بد من مواجهته بمنظور آخر.
والراهن أنّ الغالبيّة الساحقة من أعمال هذه المدرسة تُكتب وتُنشر باللغة الإنكليزيّة التي يُفترض أنّها بذاتها وسيط أساسيّ من وسائط التأثير الاستعماريّ! وإذا كان مطلوباً جعل «التابع يتكلّم»، بحسب تعبير غاياتري سبيفك، الأكاديميّة الهنديّة في جامعات الولايات المتّحدة، فإنّنا لا نسمعه يتكلّم إلاّ بالانكليزيّة، وبين فينة وأخرى بالفرنسيّة، فضلاً عن صدور كلامه عن جامعات «الرجل الأبيض» ودور نشره.
وربّما وجدنا بعض العِبَر في سيرة الروائيّ الكينيّ نغوغي وا ثيونغو، أبرز روائيّي أفريقيا الشرقيّة، الذي كان رمزاً بارزاً لحركات نزع الاستعمار ثقافيّاً. فهو قاد حملة لمنع تعليم الأدب الإنكليزيّ في جامعة نيروبي حيث كان يدرّس، ولإبدالها بلغات أفريقيّة بعضها شفويّ، فضلاً عن انكبابه على إنشاء مسرح أفريقيّ مستقلّ عن تأثيرات المسرح الأوروبيّ. لكنْ في 1999 اعتقلت سلطات كينيا وا ثيونغو فقضى قرابة عام في السجن دون محاكمة، كما لم يُسمح له برؤية الشمس سوى ساعة في النهار. لكنّه ردّ، في سجنه، على سلطات بلاده فصعّد ضدّ «الاستعمار الثقافيّ» الإنكليزيّ بأن قرّر عدم الكتابة بلغته، والكتابة بدلاً منها باللغة المحلّيّة، لغة الغيكويو، فيما غيّر اسمه الأصليّ الذي كان جيمس نغوغي. وفي 2002 عاد إلى كينيا التي نُفي منها بعد حرمانه من التعليم واضطهاد عائلته، ليتعرّض، بعد سنتين، لاعتداء عليه وعلى زوجته ولنهب شقّته. هكذا انتهى به المطاف أستاذا للأدب المقارن في كاليفورنيا، تُدرّس أعماله المكتوبة بلغته الوطنيّة وتُترجم إلى الإنكليزيّة ثمّ تُنشر في دور نشر ممتازة كما تحتفي بكتبه الصحف والمجلاّت الأميركيّة.
لكنْ ألم نسمع قبلاً شيئاً من هذا الضجيج الذي نسمعه اليوم؟ بلى. ففي أوائل الستينات سكّ الرئيس الغانيّ يومذاك كوامي نِكروما تعبير «الاستعمار الجديد»، وفي 1965 أصدر كتاباً شهيراً بعنوان «الاستعمار الجديد – المرحلة الأخيرة من الإمبرياليّة». فإذا كانت الإمبرياليّة «أعلى مراحل الرأسماليّة» عند لينين، فإنّ نكروما عثر في «الاستعمار الجديد» على أعلى مراحل الإمبرياليّة.
واستناداً إلى النظريّة هذه شاع التشهير بالاستقلالات السياسيّة التي هي كناية عن «عَلَم وطنيّ وكرسيّ في الأمم المتّحدة»، بينما يقول الواقع إن الاستعمار لا يزال قائماً عبر التحكّم بالأسواق والأذواق والتصدير ومشاريع التنمية.
بمعنى آخر، أُعلن موت الاستقلالات السياسيّة باسم الاقتصاد، قبل إعلانه هذه المرّة باسم الثقافة، وفي المرّتين قيل أنّ الاستقلال لم يحصل، وأنّ «الاستعمار» ليس حدثاً حدثَ في الماضي، ولا حتّى حدثاً مستمرّاً إلى يومنا هذا، بل هو حدث لا نهاية له يقيم في جوهر كينونتنا.
ومن يدري ما إذا كانت ستحصل المواجهة الثالثة، بعد الاقتصاد والثقافة، في كمال الأجسام، أو ربّما في تربية الأطفال.
أغلب الظنّ أنّ هذا الاستخدام للاستعمار يشبه الخطيئة الأصليّة في الرواية المسيحيّة كما أتى بها بولس الرسول وطوّرها القدّيس أوغسطين. فبسبب تلك الخطيئة التي ارتكبها آدم يوم خدعته الأفعى، سقط البشر من الجنّة واستولى عليهم الشقاء جيلاً بعد جيل. وهم سوف يشقون إلى ما لانهاية، إذ أنّ ما حدث لا يقبل التكرار على نحو معكوس، ولا يتيح بالتالي لمن أراد أن يكفّر عن ذنبه فرصة التكفير.
وفي زمننا الراهن، وطالما أنّ النتائج التي أسفرت عنها حركات التحرّر الوطنيّ والاستقلالات كانت بائسة ومثيرة للأسى، بات مطلوباً إسباغ المزيد من الخلود والديمومة على الاستعمار. فإذ تغدو مناهضته التعريفَ الأوحد لطرف ما، يصير مطلوباً إبقاء هذا الاستعمار الميّت حيّاً كيما يبرّر حياة الطرف الذي يستمدّ معناه من مناهضته له.
وفي الوسع اللجوء إلى رسم بيانيّ نتعلّم منه أنّه كلّما قلّ الإنجاز في بلد ما من البلدان التي خضعت سابقاً للاستعمار، زاد الصراخ المناهض للاستعمار الذي ينبعث من ذاك البلد، والعكس صحيح.
فنزع الاستعمار بالتالي شعار لا يتحقّق لأنّ الاستعمار، باستثناء فلسطين، بات منزوعاً. فوق هذا، لا ينبغي أن يُنزع الاستعمار حتّى لو كان لا يزال قائماً. ذاك أنّ من المستبعد أن ينزعه المطالبون بنزعه فيما هو علّة وجودهم الوحيدة.
حقّاً، ماذا تراهم يفعلون لو اعترفوا بنزعه، أو لو نزعوه؟