أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

عن «الخلاص العجائبي»

استمع إلى المقالة

بينما تشهد «بلاد الأرز» الحرب الأخطر في تاريخها، تعود في أنحاء عدة من جبل لبنان تلك العبارة التي طالما رددها الأهالي منذ بدأت الحروب والاجتياحات والفتن عام 1975، التي تقول: «لا تخافوا، لبنان وقف الله، ولا أحد يقوى عليه». ثمة مَن ينسب هذه العبارة إلى أنطونيوس شينا، ناسك وادي قزحيا. وثمة مَن ينسبها إلى «الكتاب المقدس». ومع أنه ورد اسم «لبنان» عشرات المرات في هذا الكتاب، مصحوباً بأجمل المعاني، فهذه العبارة لم ترد فيه. ولا شك في أنها تأليف شعبي لمواجهة المخاوف الكبرى على المصير.

رغم ذلك، حين نستعرض مسار الحركة اللبنانية على مدى القرنين الأخيرين، منذ سقوط الإمارة الشهابية عام 1842 إلى اليوم، نراها في كل مرة تنجو من الهلاك المحتم، حين يكون انتفى كل أمل لها في النجاة. أي سرّ هو سرها؟ لا بد من الإشارة أولاً إلى انبثاق هذه الحركة من أسس جغرافية وتاريخية راسخة، عمادها طبيعة جبل لبنان وموقعه الفريدان في المشرق، والجماعات اللاجئة تاريخياً إليه هرباً من الجور، وسعياً إلى بيئة منيعة تمارس فيها استقلاليتها وحريتها. هذه الأسس الموضوعية الثابتة هي التي حدّدت هوية الحركة اللبنانية ومضمونها على مرّ الزمن، في التوق إلى التفلت الدائم من هيمنة المحيط السلطوية، نحو نظام حياة مختلف ومنفتح. مما حدد الصراع الذي يلازمها على الدوام، والذي يصل في كل مرّة إلى منعطفات مأساوية: هي تتوق إلى التحرّر من سطوة المحيط، والمحيط يسعى إلى إعادة دمجها في نظامه بكل الوسائل.

ولما كانت حركة التاريخ بالغة التعقيد، لا يمكن التحكّم بها حقاً، ولما كان التحوّل، كل تحوّل، تلتقي في تحقيقه عوامل داخلية وعوامل خارجية جمّة، مرّت الحركة اللبنانية بامتحانات مصيرية كبرى ثلاثة، نجت منها بما يشبه «الخلاص العجائبي»، عام 1861، وعام 1918، وعام 2005، وهي تمرّ عام 2024 بامتحانها المصيري الرابع.

بعد رهان السلطنة العثمانية على الصراع الدموي بين الدروز والموارنة وتشجيعها له لضرب الحركة اللبنانية، أمّنت لها مذابح 1860 الطائفية في جبل لبنان، ومثيلاتها في دمشق، الانتصار العسكري الكامل. كان كل شيء قد انتهى حقاً. لكن ما لم يكن في الحسبان هو الصدى العميق الذي تركته الأحداث الدامية في أرجاء أوروبا، التي توحّدت دولها الكبرى للمرة الأولى حول المسألة اللبنانية وأيّدت الحملة على الشرق التي قررها نابليون الثالث. فانقلب الانتصار العسكري العثماني هزيمة سياسية، أدّت عام 1861 إلى قيام الحكم الذاتي المضمون دولياً في جبل لبنان، الذي عرف معه نصف قرن من الاستقرار والازدهار.

لكن السلطنة العثمانية لم تنسَ المسألة. أول ما فعلته بعد دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والنمسا عام 1915، كان تعليق نظام الحكم الذاتي ووضع جبل لبنان تحت الحكم العسكري المباشر. أعلنت الآستانة الأحكام العرفية، وأقامت الحصار الغذائي، الذي رافقته موجات الجراد والأوبئة، ما أدّى خلال سنوات ثلاث، من 1915 إلى 1918، إلى إبادة ثلث سكان جبل لبنان، في أفظع مأساة عرفها هذا الجبل على مرّ تاريخه. كان كل شيء هذه المرّة أيضاً قد انتهى حقاً. لكن انتصار الحلفاء على دول المحور أدى إلى انهيار السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمساوية - الهنغارية، وإلى قيامة «لبنان الكبير».

ثم في عام 2005، من كان يأمل في أن لبنان سيخرج من بوتقة الوجود العسكري السوري المطبق عليه منذ ثلاثة عقود، بمباركة أميركية وإقليمية؟ كان كل شيء هذه المرة أيضاً قد انتهى حقاً، وإلى غير رجعة. لكن فجأة أدى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقيام حركة «14 آذار» الشعبية المليونية، بين ليلة وضحاها، إلى قلب الوضع رأساً على عقب، داخلياً وخارجياً، وإلى جلاء الجيش السوري عن لبنان.

والآن في عام 2024 كان «حزب الله»، قد هيمن على دولة «لبنان الكبير»، بعد أربعين عاماً من العمل الدؤوب في الداخل والخارج، بمائة ألف مقاتل ومئات آلاف المسيرات والصواريخ، بحيث بدا هذه المرة أيضاً أن كل شيء قد انتهى حقاً. لكن «طوفان الأقصى» أطلق فجأة هذه الحرب الشاملة بين إيران وأذرعها اللبنانية والعراقية واليمنية والفلسطينية من جهة، والكيان الصهيوني وأميركا والغرب من جهة أخرى. ترى إلى أين؟ وما مصير الحركة اللبنانية فيها؟