لم يتوقع أحدٌ أن يتمكَّن الإسرائيلي من رأس نصر الله، ولا تصفية قيادات محورية بهذه السهولة؛ ولم يتوقع أحد أن يُفاجئ الإسرائيلي «حزب الله»، وبقية محاور المقاومة، بحربٍ لا تشبه حروبه السابقة؛ بهذا طبق الإسرائيلي مقولة الجنرال والفيلسوف الصيني صن تزو: «لكي تكسب الحرب تجنب نقاط قوة عدوك، وهاجم أماكن ضعفه». هكذا هاجم العدو رأس الحزب، ثم بقية القيادات، وتجنب حرباً بريةً استعد لها الحزب كل الاستعداد. وتبين أيضاً إن الإسرائيلي كان يستعد منذ عام 2006 لخوض معركة تكون «أم المعارك»، فجمع المعلومات المخابراتية، وحدد الأهداف بالآلاف، وطور أسلحة خصيصاً لتلك المعركة، ثم ترك الحزب يسرح ويمرح في سوريا وبقية الأقطار يراقبه ويدرس تحركاته، ويفهم نفسيته، وفي لحظة حاسمة قرر أن يخوض معه المواجهة الكبرى، ناسفاً كل قواعد الاشتباك، وكل الخطوط الحمراء، التي تمسك بها الحزب اعتقاداً بأن الإسرائيلي يخشاه، ولن يخاطر.
يواجه «حزب الله» تقاطعات صعبة جداً، قد تقوده، في ظل ظروفه القاسية، إلى خسارات لا يمكن تعويضها، وتضطره للانكفاء للداخل والتحول إلى حزب سياسي، مثل بقية الأحزاب اللبنانية، وبذلك سينكسر قلب محور المقاومة، ويتحقق ما قاله نتنياهو في خطابه أمام الأمم المتحدة بأن الحرب التي يخوضها ستغير منطقة الشرق الأوسط. ولا يمكن، في ضوء ما نراه، اعتبار تهديدات نتنياهو تبجحاً بل قراءة محسوبة لواقع من ثلاثة مستويات: محلية لبنانية وإقليمية ودولية.
على المستوى المحلي، تبدو الأمور مأساوية للحزب، لأنه بلا رأس، وبلا ماكينة إعلامية تُخاطب جمهوره، وبلا منعة داخلية تحميه؛ فاللبنانيون في أغلبيتهم عدّوا أن الحزب بعد التحرير انتهت مهمته، ففاجأهم بمهمة إقليمية في سوريا تتجاوز طموحات الوطن اللبناني فأحدث قطيعة مع أكثرية لبنانية تعاطفت مع الثورة السورية المطالبة بالحرية والعدالة؛ وعدَّ السيد نصر الله أن حربه هذه في سوريا «حرب مصيرية»، وخاضها بكل قواه، فبقي أثرها في النفوس خنجراً مسموماً. كما أن هيمنته الواضحة على الحياة السياسية أشعرت الجميع أن في لبنان طائفة أولى وطوائف ثانية وثالثة، وأن الدولة مختطفة.
على مستوى الإقليم، تحول «حزب الله» إلى فزاعة لأن أجندته أصبحت أكبر من لبنان، وتحول إلى أداة لتغيير موازين القوى في الإقليم، فكان تدخله في اليمن، بعد سوريا، ودعمه للفصائل العراقية، وخطابه السياسي، أكبر من أن يتحمله الجوار العربي؛ فكان الحصار الإقليمي العربي، وتصنيفه منظمة إرهابية من دول الإقليم، وتراجع لبنان اقتصادياً ومالياً، ودبلوماسياً. فتعرَّى لبنان من ثوبه العربي، ولبس الثوب الإيراني الثوري، فنال بذلك جعجعة إيران وصمت العرب؛ لم يأت وفد عربي إلى لبنان، ولا شهد تحركات عربية مؤيدة على عكس عام 2006 حيث وقف العرب مع لبنان، فحموه، ومعه الحزب، ثم ضمدوا بالذات جراح بيئته، وضخوا الأموال التي أعادت الحياة لشرايين الوطن. لا يجد الحزب اليوم مدافعاً عنه إلا إيران إنما بخجل محزن، وعجز فاضح؛ ويبدو أن إيران موقنة أن استثمارها الأضخم لمد نفوذها في المنطقة قد يتلاشى كما تتلاشى الأسهم في بورصة لندن.
أما على المستوى الدولي، فإن «حزب الله» أصبح مُصنفاً في معظم عواصم الغرب منظمة إرهابية، وتتماهى الولايات المتحدة بالذات مع إسرائيل في عدائها له، وترى محنته فرصة لترتيب أوراق المنطقة بما يتوافق مع مصالحها، ورؤيتها للعالم؛ وتدرك الولايات المتحدة أن «حزب الله» لا يمثل قيمة استراتيجية للصين ولا لروسيا لأن مصالحهما أكثر ارتباطاً بالإقليم العربي، والغربي، وبالتالي لن يندفعا لإنقاذه؛ وحدها إيران تدرك أن خسارته سقوط لنظرية «زنار النار» التي هندسها قاسم سليماني، وتعرف أن دخولها حرباً مباشرة لأجله ستكون أكثر تكلفة بكل المقاييس؛ لذلك ارتأى الرئيس الإيراني في لقاءاته بالدوحة حث الدول الإسلامية، وبالذات المملكة، للتكاتف لحماية لبنان والشعب الفلسطيني. هذه الاستراتيجية الإيرانية لن يكتب لها النجاح إذا لم يصاحبها اعتراف إيراني وصريح بأن الدولة اللبنانية هي وحدها صاحبة حصرية السلاح، وأن حل الدولتين هو الخيار الأوحد للفلسطينيين. هذا إذا ما قبلته إيران سيمثل انقلاباً كبيراً لأنها ستتحول، كما قال كسينجر، من ثورة إلى دولة.
إن قدر المنطقة موقوف على زعيمين هما: نتنياهو وخامنئي؛ الأول رغم براغماتيته يؤمن بفكرة إزالة أعداء إسرائيل بالقوة، والثاني بفكرة انتصار الثورة الإمامية بالشهادة، لكنهما، لأول مرة، يجدان نفسيهما في مواجهة مباشرة ومدمرة، وبفارق أن الداخل الإيراني لا يرغب في المواجهة بينما الإسرائيلي ينتظرها، وكذلك أن إيران تخوضها بلا زنار نار، بينما إسرائيل بزنار الناتو. ليس أمام إيران إلا خياران: انضمامها لتسوية كبرى، أو الانجرار لحرب يعرف الجميع مسبقاً نتائجها.