دعنا نفترض أن حكومتنا قررت إصلاح أو تطوير الثقافة الوطنية، في السياق الذي أسميناه، في الشهر الماضي، «الهندسة الثقافية»، فما الأهداف التي ينبغي أن تحتل المرتبة العليا في سُلم أولوياتها؟
للإجابة عن هذا السؤال، دعنا نوضح مسألتين: أولاهما وظيفة الثقافة والدور الذي تلعبه ضمن المخطط العام للتطوير في بلد بعينه. أما الثانية فعن طريقة توظيف الثقافة في خدمة الأغراض الوطنية العامة.
بالنسبة إلى المسألة الأولى، فإن الثقافة التي نعنيها هنا هي مكونات الخلفية الذهنية التي توجه السلوك الجمعي، والتي نسميها أحياناً العقل الجمعي أو العرف العام؛ أي الطريقة التي يتبعها عموم الناس في تحديد ما هو مناسب أو غير مناسب من السلوكيات الفردية. ونتعرف إلى هذه عادةً في ردود فعل الناس على المواقف التي يواجهونها في حياتهم اليومية، ولا سيما المواقف التي تتعلق بمسائل جديدة أو غير معتادة.
نعلم أن 90 في المائة من سلوك الأفراد عفوي، يصدر من دون توقف أو تفكير، لكنه مع ذلك يبدو للناس معقولاً؛ لأنه يعتمد على قناعات مسبقة، جرى التوصل إليها وتثبيتها في الذاكرة، كمعيار لما ينبغي للإنسان أن يفعله أو يعرض عنه. خذ مثالاً من حياتك اليومية: فحين تركب سيارتك صباحاً، فإن ذهنك يقوم بمئات من العمليات العقلية، التي تشمل اختيار الطريق واستعمال السيارة، ومقابلة التحدي الذي يمثله السائقون الآخرون. كل هذه العمليات تجري بشكل متوال وسريع؛ أي أنك تقوم بها طيلة الوقت، من دون أن تشعر بكل جزء منها، أو تقرر سلفاً ما الذي ستفعل الآن، وما الذي ستفعل لاحقاً. توالي هذه العمليات بات ممكناً بعدما جرى تثبيت مرجع معياري لكل عملية منها، في الذهن أو الذاكرة. والحقيقة أن جانباً كبيراً من النشاط الذهني للإنسان ينصرف إلى صياغة وإصلاح هذه المراجع أو قواعد العمل. ومن هنا أيضاً فإن المهمة الكبرى للإصلاح الثقافي تتمثل في هذه النقطة، على وجه التحديد: مسح القواعد العتيقة أو غير المتناسبة مع حاجات الإنسان وحاجات عصره، وإنتاج قواعد جديدة.
في ما يخص المسألة الثانية فإن أبرز التحديات التي تواجه مجتمعنا هي تحدي الحداثة، ولا سيما استيعابها من خلال معالجة نقدية، تسمح بتنسيج قيمها الرئيسية في نسيجنا الثقافي، وصولاً إلى إنتاج ظرف ثقافي / اجتماعي حديث، لكنه غير منقطع عن التجربة التاريخية. لا أقصد - بطبيعة الحال - أن يكون المجتمع الجديد استمراراً للتجربة التاريخية، بل أن يكون واعياً بها، قادراً على نقدها واختيار ما فيها من محاسن، مدركاً لحدود تأثيرها على تفكيره في قضايا اليوم.
استيعاب الحداثة يعني التمييز بين ما هو علمي وما هو أسطوري أو خرافي في حياتنا، والتأسيس على العقلانية والعلم. ليس من الضروري استبعاد الأساطير أو إنكارها، ما دامت في إطار الفولكلور والتخيل، ولم تتحول إلى أساس تُبنى عليه قرارات أو مواقف. يجب أن نصارح أنفسنا بأننا ورثنا طائفة واسعة من العناصر الثقافية التي تعطل عقولنا أو تثبط همتنا، وفي نهاية المطاف، تعوق ما نطمح إليه من نهوض علمي واقتصادي واجتماعي.
بناء على ما سبق، فإن استراتيجية وطنية لإصلاح الثقافة ينبغي أن تحدد أهم أهدافها في: معالجة التقاليد والموروثات التي تدفع العقول نحو البناء على الأسطورة أو القيم اللاعقلانية أو المتعارضة مع مستخلصات العلم.
لحسن الحظ، فإن هذه المهمة الكبرى ليست عسيرة، كما قد نظن؛ ذلك أن علاجها متوفر فعلاً وقليل الكلفة، هذا العلاج هو إلغاء القيود على تدفق المعلومات، والضمان القانوني لحرية التعبير والنشر. إن رسوخ الخرافة في الأذهان سببه الرئيس هو ضيق الأفق الثقافي، وعدم الاضطرار إلى مجادلة الموروث. فإذا وجد الإنسان نفسه في مواجهة خيارات عديدة معارضة لمحتوى ذاكرته، فسوف يضطر للتفكير والمقارنة. وهذا يكفي - في اعتقادي - كي يكتشف العقل الفارق الجوهري بين ما يحويه فعلاً وبين الجديد الذي يُعرض عليه.