الراحلة مارغريت ثاتشر كانت أول امرأة تولت رئاسة الحكومة البريطانية، وتربعت في 10 دواننغ ستريت لمدة 11 عاماً، وفازت بـ3 انتخابات نيابية متتالية، ووُصِفت بالمرأة الحديدية، بعد انتصار بريطانيا في حرب الفوكلاند. لكنها انهارت بالبكاء، وهي تغادر ذلك المقر التاريخي. وكذلك فعلتْ مثلها تيريزا ماي ثاني امرأة تتولى المنصب.
الرجالُ من رؤساء الحكومات البريطانية لدى انتهاء ولاياتهم، يُحضرون معهم زوجاتهم لدى الوداع. ربما ليتولين مهمة سفح الدموع بدلاً منهم. لكنهم، في نهاية المشهد، نراهم على شاشة التلفزيون، يغادرون مجرجرين أقدامهم برؤوس محنية من شدة الحزن.
المراقبون والمتابعون للساحة السياسية البريطانية ربما يفضل أغلبهم حضور ومتابعة مراسم دخول رؤساء الحكومات إلى ذلك البيت الشهير، ببابه الأسود اللامع. وبعضهم، وهم أقلية، يفضلون حضور مراسم المغادرة النهائية، حيث يكون الرئيس المغادر مقطب الجبين واجم الملامح، محاطاً عن قرب بزوجته وأولاده وأعوانه، بوجوه واجمة حزينة، وبعضهم يبكون وهم يقفون في زاوية بعيدة قليلاً عنه. وحيث يضطرون إلى الإنصات إلى الزعيم المغادر، وهو يلقي خطابه الوداعي، ويكونون، في الوقت ذاته، هدفاً ثابتاً وسهلاً لعدسات المصورين.
وصباح يوم الجمعة المنصرم تكرر المشهد نفسه. كان رجال ونساء وسائل الإعلام حاضرين بكثافة أمام 10 داوننغ ستريت، في انتظار خروج رئيس الحكومة السابق ريشي سوناك ليلقي خطاب وداعه، ويغيب بعدها في غياهب النسيان. وحين فُتح الباب الأسود، خرج منه سوناك مصحوباً بزوجته فقط. اتجه مباشرة إلى المنصة الصغيرة، التي وُضعت أمام المقر، في حين وقفت زوجته إلى يساره، على مسافة قصيرة منه، وبيدها اليمنى مظلة مطوية. وحين باشر هو إلقاء خطابه الوداعي الحزين، كنت أرصد ملامح زوجته على شاشة التلفزيون في انتظار انهيار مقاومتها البكاء. كانت الزوجة، طوال تلك اللحظات، تبكي من غير دموع. بدا ذلك واضحاً في تبدلات وتقلصات ملامح وجهها. وحين انتهى الزوج من خطابه، مدت إليه يدها واصطحبته إلى السيارة الواقفة في انتظارهما لنقلهما إلى القصر الملكي لتقديم الاستقالة. في حين ظل رجال ونساء وسائل الإعلام والمصورون في أماكنهم في انتظار وصول رئيس الحكومة الجديد السير كير ستارمر قادماً مزهواً من مقابلة الملك تشارلز الثالث في قصر بكنغهام، عقب تسلمه رسمياً أمر تكليف تشكيل الحكومة الجديدة.
لا أعرف ما إذا كان موكبا رئيس الحكومة المغادر والجديد يلتقيان في الطريق إلى القصر الملكي أم لا. لكن الجماهير الواقفة أمام البوابة الخارجية، في الضفة المقابلة من البوابة الرئيسة في مقر رئيس الحكومة، أمام 10 داونينغ ستريت، ليس بينهم مَن جاء مودعاً للسيد سوناك. إنهم أنصار القادم الجديد السير ستارمر. جاءوا فرحين لاستقباله كما يليق بالقادة المنتصرين. لكن العبرة بالخواتيم. وخاتمة ريشي سوناك كانت مُذلة ولا تُنسى، ووضعت نهاية لواحدة من أسوأ فترات حكم المحافظين في بريطانيا.
الآن، تُفتح الأبواب مشرعة ليدخل المؤرخون ويدلون بدلاهم في توثيق وتحليل مرحلة حكم أول رئيس حكومة ابن مهاجرين هنديين، دفعت به الظروف السياسية ليتولى رئاسة الحكومة وزعامة الحزب. فماذا سيكتبون؟
الأرجح أن أغلبهم لن يكونوا قُساة في الحكم عليه؛ كونه تولى مقاليد الأمور في الوقت الخطأ. بمعنى أنه جيء به لإنقاذ البلاد، بعد أن كانت تسير بسرعة جنونية نحو هاوية لا رجوع منها، نتيجة أخطاء رئيسة الحكومة التي سبقته، ليزا تراس. وحين تسلم الحكم، وجد نفسه غارقاً في ركام تركة ثقيلة، تركها له ثلاثة من أسلافه. كما وجد أمامه حزباً منقسماً على نفسه إلى شظايا. ولم يملك من الخبرة والوقت والجرأة ما يمكّنه من إعادة وحدة الحزب. ورغم ما بذله من جهود، فإن التركة كانت أثقل وأكبر منه، والصدع في الحزب غير قابل للجبر. ودخل الانتخابات بحزب منقسم ومثقل بفضائح الفساد، والبلاد في أوضاع اقتصادية عسيرة. ولم يكن ممكناً نجاحه في الانتخابات وحفاظه على منصبه. كان أفضل ما يفعله أن يقلل من اتساع شرك الهزيمة. ودخل الانتخابات بعدد 372 نائباً محافظاً في البرلمان، وخرج منها وقد فقد عدد 250 منهم، من ضمنهم أكثر من 40 وزيراً، من ضمنهم 11 أو 12 من وزراء حكومته، ومنهم مرشحون لتولي زعامة الحزب.
لكن ما لا ينساه له المؤرخون، على الأقل بعضهم من المنصفين، وما لا ينساه له التاريخ وأنصار القضية الفلسطينية في مختلف أنحاء العالم أن سوناك وحكومته وقفوا بقضهم وقضيضهم مع إسرائيل في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. ودعموها بالمال وبالسلاح وبالدعم الدبلوماسي والسياسي. وأرسلوا طائرات التجسس الإلكترونية إلى سماء غزة للمشاركة في البحث عن قادة «حماس».
في أول ساعات يوم الجمعة الموافق 5 يوليو (تموز) أسدل الناخبون البريطانيون الستار على 14 عاماً من حكم المحافظين، وأذنوا لحزب العمال بالعودة إلى الحكم، وبدء مرحلة جديدة. ودائماً تكون العبرة بالخواتيم.