في تداخل مقلق بين ثقافة دينية شاملة في الإطار القومي الخليجي، ومنتجات خطيرة لهذه الثقافة تمثلت في الإرهاب الذي يستند عمليا في تطبيقاته إلى معطيات منشؤها ذات الثقافة السائدة في المنطقة، مع تفاوت شديد في وجود المساحات المناسبة لثقافة التطرف بين دول الخليج ذاتها، هناك ثلاث دول خليجية فقط من بين تلك الدول الست تعرضت لموجة الإرهاب عبر عمليات أسفرت عن وقوع ضحايا، وذلك خلال العقود الأربعة الماضية، بقية الدول الخليجية لم تكن مستثناة من الإرهاب، ولكنها عايشت صراعًا فكريًا محتدمًا في مجتمعاتها حول التطرف.
لا يمكن التأكيد على أن فكرة الدولة الثيوقراطية في المنطقة الخليجية مترسخة، لذلك عاشت هذه الدول في تجاذب ثقافي بينها وبين شعوبها التي تحتفظ بطبيعتها الدينية كحق تاريخي، فلا توجد في العالم ثقافة سياسية تسعى لنسف المعتقدات الدينية لدى شعوبها إلا سقطت بشكل مريع، هذا التحدي الثقافي الذي يواجه دول الخليج من خلال معادلة صعبة تدفع بتلك الدول نحو مواجهة الأسئلة الصعبة حول المؤثرات الآيديولوجية التي يمكن أن تنتجها الشعوب الخليجية نتيجة ممارستها للدين مجتمعيا.
الأمن القومي الخليجي ليس قضية دفاعات عسكرية واتحادات سياسية واقتصادية فقط، وإنما هو منظومة مكتملة من (السياسة والاقتصاد والثقافة) وأي خلل في تكامل هذه المنظومة لن تتمكن بقية عناصر المنظومة من تغطيته. دول الخليج وأمنها القومي قضية أساسية وحاسمة، وخاصة خلال السنوات الخمس الماضية التي شهدت فيها بعض دول العالم العربي تحطمًا في منظومة أمنها القومي تم التعبير عنه من خلال ثورات مستحدثة ذات صياغة إعلامية ساهمت في تأجيج الشعوب، ودفعها إلى ممارسات غير واضحة في مستقبلها، عدا عن كونها ستؤدي في النهاية إلى الفوضى والحرب الأهلية.
حتى هذه اللحظة استطاعت دول الخليج أن تمارس شكلاً من الثبات السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وساهمت النتائج السريعة للتحطم السياسي والثقافي والاجتماعي في الدول العربية، المصابة بالفوضى، في قدرة دول الخليج على إطلاع شعوبها على النتائج المحتملة من فوضى وفقدان للمصالح الوطنية الفردية في حال تمكنت ظاهرة ما سمي (الربيع العربي) من الوصول إلى تلك المجتمعات.
النجاح والخروج الذي تمكنت دول الخليج من تحقيقه للمغادرة السريعة منذ اللحظات الأولى من ظاهرة (الربيع العربي) لعبت فيه معطيات سياسية واقتصادية وقومية دورًا بارزًا، ولكن السؤال المهم يكمن في القدرة المستمرة للصمود أمام ظاهرة الإرهاب، على اعتبار أنها ظاهرة تمس الفكر الديني للوصول في النهاية إلى محاربة تقدم ظاهرة الإرهاب نحو الإخلال بمنظومة الأمن القومي الخليجي..؟
دول الخليج قادرة سياسيًا واقتصاديًا من خلال منظومة سياسية متقاربة عبر إدارة الحكم بأسلوب يعتمد على التكامل مع المنظومة المجتمعية للدول، من خلال علاقات متداخلة قبلية ومناطقية وتاريخية، صنعت هذا التكتل الظاهر بين مؤسسات الحكم في الخليج وشعوبها، كما أنها قادرة على بناء قوة اقتصادية تستطيع أن تتحكم في التماسك السياسي من خلال منظومة علاقات اقتصادية تدمج بين المصالح الوطنية التنموية للدول ومصالح شعوبها، إذن أين المشكلة التي يمكن أن تهدد الأمن القومي الخليجي إذا كانت دول الخليج توفر كل هذه المعطيات لتحقيق أمنها القومي داخليًا..؟
البعد الثقافي المرتبط بآلية ممارسة الدين، وكيفية تفاعل المجتمعات الخليجية معه، يشكلان محور البحث في قضية الأمن القومي الخليجي في المرحلة الحالية والمستقبلية معًا، دول الخليج ذات شعوب متدينة بطبيعتها، ولكن السؤال هل هذه الدول هي دول ثيوقراطية؟ الحقيقة أن الإجابة الصحيحة هي بالنفي القاطع، دول الخليج ليست دولاً ثيوقراطية كما هي إيران التي تؤمن بولاية الفقيه.. دول الخليج استطاعت عبر تاريخها أن تثبت لنفسها وللعالم قدرتها وقدرة شعوبها على خلق التوازن بين الدين الفكرة، وليس الدين السلطة، ومتطلبات تلك الدول التنموية والسياسية والاقتصادية.
الأزمة التي أعتقد أنها أكبر مهدد للأمن القومي الخليجي في وقتنا الحاضر، بدأت في واقعها قبل أربعة عقود تقريبًا، عندما ساهمت الظروف السياسية في المنطقة العربية، وخاصة نماذج التحولات السياسية التي حدثت في الستينات الميلادية وما بعدها، حيث أنتجت هذه التحولات انتقالاً مهمًا للثقافة الدينية السائدة عبر تحول الفكر الديني إلى فكر سياسي، أنشئت من خلاله الجماعات الإسلامية مثل جماعة الإخوان وغيرها، ليبقى السؤال ما هو الخطر على الأمن القومي الخليجي، الذي يمكن مشاهدته عبر هذه اللمحة التاريخية..؟
الطبيعة السياسية لدول الخليج، وتداخلها الثقافي مع الدول العربية بشكل كبير، ساهمت في انتقال فكرة الإسلام السياسي إلى المنظومة المجتمعية وبين الناس في الخليج، فوجدت جماعات مثل جماعة الإخوان انتشارًا في الإطار المجتمعي، وتشربت المجتمعات الخليجية فكرة الإسلام السياسي بطريقة مباشرة من دون قيود فكرية أو ثقافية من مؤسسات الحكم في تلك الفترات، وهذا ساهم في نشر أفكار الإسلام السياسي المتطرفة على المستوى الشعبي بشكل كبير، وكما هو معروف تاريخيًا أن الإسلام السياسي ثوري ومتحفز على المستوى الشعبي، ولكنه متلون وغير واضح على المستوى القيادي وهذا ما أثبتته التجارب التاريخية.
على الجانب الآخر، شكل وجود دولة ثيوقراطية، مثل إيران، بجانب دول الخليج أزمة أخرى، فطبيعة المنافسة بين دول الخليج وإيران في المنطقة، وسلوك إيران الثيوقراطي وتقديمها البعد الطائفي والمذهبي في مشروعاتها السياسية، ساهمت في ممارسات ثقافية من قبل المجتمعات الخليجية تجاه السلوك الإيراني حتى بدأت القضية للعالم وكأن دول الخليج وإيران متساوية في تبني الحكم الثيوقراطي في مجتمعاتها، وهذا غير دقيق، ولكنه للأسف هو الزاوية الوحيدة التي يرى من خلالها العالم الشعوب الخليجية ومؤسساتها السياسية.
عملت إيران بشكل مباشر وماكر، من خلال تصدير ثورتها، لجعل المنافسة الثيوقراطية هي المحك الرئيسي بينها وبين دول الخليج، فهذا النهج سوف يضمن لها قضيتين رئيسيتين؛ قدرتها على تأجيج الطائفية في المنطقة والصراع الديني الطائفي، ثانيًا تبنيها بطرق متعددة لظاهرة الإرهاب ودعمها، وتبني وإنشاء جماعات متطرفة لتأجيج الصراع الديني في المنطقة، لكي تبدو المنافسة ثيوقراطية، بينما النتيجة النهائية المطلوبة هي سيطرة سياسية تحت شعارات طائفية مذهبية.
الأمن القومي الخليجي متنبه تاريخيًا إلى أن الفكر الديني منطقة مهمة لاستقرار الشعوب، ولكن هل يدار ذلك بحذر، وبعيدًا عن الاندفاع (الثيوقراطي) الذي يمكن أن تنتجه الشعوب كرد فعل على ثيوقراطية إيران..؟ إيران ومنذ أكثر من ثلاثة عقود مضت تعمل وفق هذا الاتجاه، وهذا بالتأكيد أنتج ثقافات مجتمعية في منطقة الخليج تبنت الاتجاه الثيوقراطي، واندفعت بشكل كبير، وهذا ما يفسر أن الصراع السياسي لم يعد بين مؤسسة الحكم في إيران والمنظومة السياسية في دول الخليج، بل تعداه، وأصبح هناك تنافس شعبي تديره جماعات التطرف والإرهاب والإسلام السياسي مع مؤسسة الحكم في إيران من دون الشعب الإيراني، وهنا يجب العودة إلى تصحيح الصورة عبر منهجية فكرية وقراءة ثقافية للخطاب لا تسمح بالضرر بالدين أو الدولة.
* كاتب سعودي
TT
الإرهاب والأمن القومي الخليجي.. إلى أين؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة