غالية قباني
كاتبة وروائية سورية مقيمة في بريطانيا من اسرة «الشرق الأوسط»
TT

اللاجئون السوريون في السويد.. معاينة عن قرب

كان لا بد من زيارة السويد بعد أن وصل إليها بعض أفراد عائلتي هربًا من النظام الذي لم يترك لهم خيارًا، خلال أكثر من 4 سنوات على بدء المظاهرات السلمية، إلا الهرب إلى حيث بصيص ضوء لمستقبل أطفال وشباب لن يعوضوا ما فاتهم من سنين أضاعوها في صراع قاده النظام عمليًا لصالح إيران وروسيا وأفشل خلالها ما تبقى من الدولة.
لن أركز على الجانب العاطفي الذي يدفعك للتوجع من مشهد جموع مكدسة من شتى فئات الشعب السوري وخلفياته مع مهاجرين من بلدان أخرى، في مراكز لجوء، تأكل وتشرب، وتتطلع طوال الوقت في هواتفها تتواصل مع الأوطان أو المهاجر، حيث بقي أو توزع أحبتها ومعارفها. وإن رفع هؤلاء الرؤوس المطأطئة فوق الشاشات الصغيرة التي تشكل عوالمهم الضيقة، تلمح نظرات زائغة ونفوسًا حائرة حيال القادم من المصير. هل سيبقون حيث هم في هذه البلدة الصغيرة أم سينقلون إلى مكان آخر، وقد تفرق بعض من رافقهم في رحلة الهجرة على طول خريطة السويد، وعرضها (الضيق إلى حد ما)، وما بين شمالها المجاور للقطب الشمالي وجنوبها المطل على بحر الشمال، آلاف الكيلومترات، والسويد حيرى في تأمين المبيت والاستقرار لكل هؤلاء الوافدين الذين يتزايد عددهم يوميًا. وبحسب تقدير رسمي نشر في صحيفة «الغارديان» البريطانية، أخيرًا، استقبلت السويد 120 ألف مهاجر من شتى الجنسيات وبينها السورية، قدموا طلبات لجوء هذا العام، بما يشكل سبع عدد اللاجئين في أوروبا هذا العام. وبعض الواصلين لا علاقة لهم بوضع أمني غير مستقر، مصريون، مغاربة وألبان. والسويد لا تتمتع بوفرة زائدة من الشقق السكنية بسبب محدودية سكانها أساسًا وعدم حاجتها السابقة لمبانٍ سكنية كثيرة. لذا عمل موظفو الهجرة بنظام المناوبة أخيرًا، غير أن ضغط العمل اضطرهم للاستعانة بالجيش لإدارة الأزمة، حيث تنفذ أماكن السكن مع محدودية الكادر المتوفر. ويقول تقرير «الغارديان»، إن بعض اللاجئين ناموا على أرضية مراكز الاستقبال بسبب عدم وجود شواغر. وتستدعي هذا المشكلة لا أزمة السكن فقط، بل أزمة الطبابة والمدارس أيضًا، ويقلق المسؤولون من عدم وجود عدد كافٍ من المعلمين لتعليم اللغة السويدية لهؤلاء القادمين الجدد، صغارًا وكبارًا، كي يسهل اندماجهم في المجتمع.
في كل الأحوال، يحظى من معهم أطفال من اللاجئين بأولوية تقدمهم على غيرهم في الخدمة على محدوديتها الآن، فالأطفال خميرة المستقبل، أكانوا أبناء البلد الأصليين أم من الوافدين الجدد. أكلهم وملبسهم وصحتهم وألعابهم، وحتى وضعهم النفسي كخارجين من عنف الحرب، مقدم على خدمة الكبار. وهؤلاء الكبار، عليهم أن يدركوا أنهم متوفرون لخدمة الصغار الذين جلبوهم إلى مجتمع آخر مستعد لاستيعاب سكان جدد لولا عنصر المفاجأة وحجم الواصلين، ففي هذه البلاد صناعة سيارات وطائرات وتكنولوجيا وكهرباء.. إلخ، وهي بحاجة لعمالة مستقبلية ماهرة.
لكن المعاينة السريعة لبعض من وصل في السنوات الأخيرة، تظهر أنه جاء إلى هذه البلاد، ليسترخي، وفي ذهنه، الحصول على الرعاية من دون مقابل، أي إيجار الشقة المدفوع والراتب الشخصي المخصص للأكل والمستلزمات الأخرى. وتبدو فكرة العمل في مجتمع غريب، مرعبة، تشعر البعض بعدم الأمان. فهي تحتاج إلى تمكن باللغة، وعدم الإتقان يعود إلى كونها صعبة ولم يتمكنوا من التفاعل معها. وهكذا تدور أقدارهم في حلقة مفرغة. يتحايلون على العيش بخدمة (أجانب آخرين) في حدود الخبرات المتواضعة التي جاءوا بها: تصليح بوتاغاز، أو غسالة، أو نجارة بيت.. إلخ، بدل أن يتحصلوا على مهارة عالية تمكنهم من العمل بعيدًا عن المساعدة الحكومية.
إنه الخوف من الاعتماد على النفس ومواجهة المصير باستقلالية في بلد لا يفقهون قوانين عمله وضرائبه ومساعداته الاجتماعية. مخاوف ينقلها اللاجئون الأكثر قدمًا إلى الجدد وهم يزورون مراكز تجمعاتهم، بحثًا عن عروس لن تكلف سوى «السترة عليها»، أو عن قادم يحمل بعض المال الصالح لمشروع صغير يمكن استثماره. أو لمجرد تزجية الوقت في مراكز لجوء مزدحمة تحولت إلى تجمعات اجتماعية، فزادتها ازدحامًا.
ولا أقصد بهذا الكلام أن كل من يصل إلى هذه البلاد يريد الاسترخاء على حساب المواطنين الأصليين، فبعض من ناقشتهم يطمحون إلى تطوير مهارات وتحصيل علمي، ويعلمون أن وجودهم مرهون بنجاحهم في المجتمع لا باتكالهم عليه. إنما في النهاية تصل جموع من اللاجئين لم تعتد فكرة الضمان الاجتماعي من قبل الدولة، ولم تحظ في بلدها بتدريب وتعليم عاليين يجعل منها عمالة ماهرة حيث تحط الرحال. إنها جموع بحاجة لجلسات من التعريف بالمجتمع الجديد، بآليات عمل مؤسساته، وبفكرة أن دفع الضريبة لمن يعمل، تقيه وغيره الحاجة عند فقدان العمل. وتحتاج هذه الجموع لفهم فكرة التضامن المجتمعي من خلال مؤسسات المجتمع المدني في الدول الديمقراطية والذي يتجلى اللحظة بأعداد من المتطوعين يقومون بالتواصل مع اللاجئين بوجه بشوش ورغبة في التفهم، لمعرفة متطلباتهم والاستماع لشكاواهم، فيكونون صلة الوصل بينهم وبين موظفي الهجرة.
هذه تفاصيل لم يعتدها السوري في بلد الحزب الواحد والقائد الباقي للأبد والمنظمات الشعبية التابعة لحكمه، والتي حولته إلى عبد بلبوس عصري، بفضل منهج مدرسي وخطاب إعلامي موجهين لمسح العقل والروح. وقلة هم من نجوا بأنفسهم من هذا النظام القسري. لذا لا غرابة أن تجد من يدافع عن النظام وهو هارب منه. إنه الخوف الذي دمغ الشخصية يتمظهر بلبوس الموقف السياسي. لا يزال البعض يعاني من الخوف من ملاحقة النظام له في المنافي، حتى لو لم يكن يومًا معارضًا فعليًا، فقد تبرمج عبر حياته على ولاء مرضي للدولة الشاملة الفاشلة. وليس من السهل إخراجها منه أو إخراج الرعب الخفي من داخله، إلا بعد استقرار واستعادة لإنسانيته.
سيتغير بعض القادمين الجدد مع الأيام، سيندمج في المجتمع الجديد بحسب شروطه متخلصًا من شرنقة خنقت إنسانيته، في المقابل سيحاول البعض الآخر اللعب على نظام المساعدات الاجتماعية والاستسلام للخمول إن سمح له الظرف بذلك. في الخلاصة، لن يعود هؤلاء، بمن فيهم الموالون، إلى سوريا، إلا مرغمين في حال رفضت طلباتهم أو منحوا إقامة حماية مؤقتة، فما سيطلع عليه السوري من نظام حياة يحترم فرديته لن يغامر به بسهولة، وفي ذلك تكسب دولة في ما فشلت فيه دولة أخرى كانت طاردة لسكانها منذ قبل أن تبدأ الثورة في ربيع 2011 حتى.