تابع العالم على اتساعه مشهدين في يومين متتاليين، ورغم أنَّ موضوعَهما كان واحداً، فإنَّ المسافة بينهما كانت هي نفسها المسافة بين القدرة وبين العجز عن فعل شيء.
كان الأول في مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، مساء الجمعة 22 من هذا الشهر. وكان الموضوع مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وكان هذا هو المشروع التاسع الذي يتلقاه المجلس حول الموضوع نفسه، منذ أن بدأت إسرائيل حربها على القطاع قبل أكثر من 5 أشهر.
كانت الدبلوماسية الأميركية قد راحت تُروِّج لمشروع قرارها، وكانت تريد أن تبيعه في سوق السياسة بين الأمم، وكانت وكأنها تريد التكفير عن ذنب تستشعره تجاه الأبرياء الذين تقتلهم إسرائيل بمساعدتها في أنحاء القطاع.
وكانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تذهب إلى مجلس الأمن وهي واثقة من نفسها تماماً، ولم تكن تخشى سيف «الفيتو» الذي ينتظر كل مشروع قانون لا ترضى عنه هي في المجلس، فمثل هذا السيف لعبة تجيدها الإدارات الأميركية المتعاقبة، وبما أن اللعبة لعبتها، فلماذا تخاف؟ وممَّ تخشى؟ وماذا يجعلها تتردد ولا تتقدم؟
ولكنها ما كادت تطرح مشروع القرار، حتى راح مندوب روسيا يشهر سيف «الفيتو» في وجهها، ثم راح مندوب الصين يشهر السيف نفسه، وكان الأمر مفاجأة لم تتحسب لها واشنطن، ولم يجد وزير خارجيتها كلمة يصف بها ما جرى سوى كلمة «الخبيث». وسواء كان ما فاجأها في أروقة المجلس خبيثاً أو طيباً، فلا فرق في النهاية؛ لأن المحصلة كانت واحدة، ولأن النتيجة كانت لا تختلف، ففي الحالتين تعطل مشروع القرار، وبدا كأنه سيف كان على مندوبة الولايات المتحدة أن تضعه في غمده وأن تنصرف.
ورغم أن الأسباب التي قالت روسيا والصين إنها وراء «الفيتو» تبدو أسباباً غير مقنعة، فإن المعنى الذي يتبادر إلى الذهن سريعاً في المشهد كله، أن الولايات المتحدة قد شربت من الكأس التي كثيراً ما جرَّعتها للدول حول العالم، وأنها قد ذاقت مما عاشت تذيقه للأمم في شتى أنحاء الأرض، وأنها أفاقت ربما للمرة الأولى على ما أعاد تذكيرها بأن السلاح الذي ظلت تشهره في المجلس في وجوه الناس، ليس في يدها وحدها.
ولم نكن في حاجة إلى أن نتعرف على حال المجلس من خلال عجزه عن فعل شيء من أجل غزة، فالمشروعات الثمانية التي سبقت المشروع الأميركي تكفي وتزيد.
وفي المرات التسع كان علينا أن نتذكر ما كان جون بولتون، مندوب الولايات المتحدة الأسبق في الأمم المتحدة قد قاله، وهو يتطلع ذات يوم إلى مبنى المنظمة بطوابقه الثمانية والثلاثين. قال وهو يتفرس فيه كأنه يحصي عدد الطوابق المتطاولة هناك، إن إزالة عشرة طوابق منها لن يؤثر في شيء!
وقد كنا نرى فيما صدر عنه تجاوزاً لا يليق في حق المنظمة الدولية الأم، ولكن مشروعات القرارات التسعة تتالت وكأنها تريد أن تقول لنا، إننا نحن الذين تجاوزنا في حق بولتون عندما أطلق ما أطلقه حول مبنى المنظمة. غير أن هذا يجب ألا ينسينا أن بلاده ساهمت بالنصيب الأوفر في وصول الحال بالأمم المتحدة إلى ما وصلت إليه، فلقد كانت واشنطن تشهر سلاح «الفيتو» بمناسبة ومن دون مناسبة، وكانت تنتصر للدولة العبرية ظالمة ومظلومة، وكان هذا كله يتراكم بعضه فوق بعض ليرسم ملامح الصورة التي تشكلت من كلام بولتون عن منظمة الأمم.
ولكن مشهداً في اليوم التالي لمشهد مشروع القرار المُجهض، رد إلى العالم بعضاً من الأمل، وخفف عن الأبرياء في غزة بعضاً من الألم.
كان المشهد أمام معبر رفح، وكان أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، قد عبر المحيط الأطلنطي من شاطئه الغربي؛ حيث يقع مكتبه، ثم طار في اتجاه الشاطئ الشرقي وصولاً إلى المعبر، ومن أمامه وقف يخاطب العالم ويقول إنه مثلما لم يكن هناك مبرر لهجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الذي قامت الحرب على القطاع بسببه، فإن العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل في حق الغزاويين المدنيين هو دون مبرر أيضاً.
لقد كانت هذه هي المرة الثانية التي يجيء فيها الرجل إلى ميدان الحرب، وكان في المرتين رجلاً شجاعاً لا يريد أن يتجرد من الضمير إزاء ما يشاهده ويتابعه، وكان يريد أن يقول وهو يطير من هناك على الشاطئ الآخر من المحيط إلى هنا في قلب المعركة، إن عليه مسؤولية تجاه هؤلاء الذين تأكلهم الحرب، وإنه إذا لم يمارس مسؤوليته بقدر ما يستطيع، فلا معنى لوجوده على رأس منظمة تتطلع إليها الأنظار كلما كان العالم على موعد مع كارثة في ركن من أركانه.
كان الرجل شاهداً على مشروع القرار الأميركي المجهض، وكان يسارع إلى زيارة المعبر ولسان حاله يقول: بيدي لا بيد مجلس الأمن!
كان المجلس يبدو هناك على الشاطئ الآخر من المحيط، وكأنه جسد ممدد بلا روح ولا حياة، وكان الأمين العام يبدو في المقابل وكأنه رأس هذا الجسد، ولكنه رأس حي فيه بقية من روح وفيه بقية من حياة، رأس إذا فاته الفعل هناك في جسده، فليس أقل من أن يحاول هنا، رأس جاء صاحبه إلى الحدود مع غزة ولسان حاله يقول إن العجز الذي ظهر به المجلس في أثناء طرح مشروع القرار الأميركي يجب ألا يجعلنا نستسلم. جاء أنطونيو غوتيريش ليقول إن رجالاً مروا ذات يوم على المنظمة، وأن داغ همرشولد كان أولهم، وأن بطرس غالي كان ثانيهم، وأنه بدوره يتعلق بهما لعله لا يخون نفسه ولا يخون الناس الذين يأملون فيه وهو يشغل موقع الأمين العام.
وحين مرَّ مشروع القرار العاشر الذي تقدمت به الدول العشر ذات العضوية غير الدائمة في المجلس، فإن مروره دون أن يصطدم بـ«الفيتو» الحاضر دائماً، كان بمثابة الاستثناء الذي يقول إن ما قبله وما قد يأتي بعده هو القاعدة.
