بوفاته إثر سقوط طائرته نتيجة خلل تقني أو اغتياله نتيجة عمل مدبر، ولكن تبقى النتيجة واحدة داخلياً وخارجياً، وهي خروج زعيم ميليشيا فاغنر يفغيني بريغوجين ونائبه نهائياً من المشهدين السياسي والعسكري والذي من الممكن أن يؤدي إلى خروج هذه القوة العسكرية أيضاً من المشهد أو تراجع دورها أو تحجيمه أو جعله تحت مظلة المؤسسات الرسمية أقله في الحرب الأوكرانية، وذلك نتيجة طبيعة المؤسسة العسكرية الروسية التي لا يمكن لها التعايش مع ميليشيات مهما كانت حليفة أو مساندة لها.
مقتل بريغوجين لن يمر من دون تداعيات على الداخل الروسي مهما حاولت موسكو التظاهر بمتانة نظامها وتماسك الجبهة الداخلية وبأن هكذا أحداث لن تؤثر على صورة نظام الكرملين وهيبته الداخلية والخارجية وأنه قادر على الاستمرار بذات الجبروت كما كان قبل غزو أوكرانيا.
منذ تمرده قبل أكثر من شهرين وإلى وقت سقوط طائرته بطريقة تثير الريبة، شغل بريغوجين الرأي العام المحلي والخارجي في تحليل واقعة التمرد وسرعة تحركه وتوقفه وسبب تراجعه، وحقيقة صراعه مع رفاق السلاح داخل أروقة الكرملين الذين التزموا الصمت أثناء أزمته العلنية مع مؤسسات الدولة الرسمية خصوصاً وزارة الدفاع، هذا الصمت حينها كان أقرب إلى الخيانة، فقد تُرك بريغوجين ومقاتلوه وحدهم من دون غطاء بعد محاولته التمرد على إرادة سيده، الذي لن يسمح لأي من مراكز القوة مهما بلغ شأنها أن تتصرف منفردة أو تتعدى الخطوط الحمر التي رسمها الكرملين أو أن تنقل صراعاتها إلى العلن.
أحد الجوانب المؤثرة في مشهد تحطم طائرة زعيم «فاغنر» على الوعي الجماعي الروسي أن من يتجرأ على السلطة المركزية ومهما كانت قوته سيدفع الثمن، ففي الحالة الروسية إذا لم تعاقب السلطة المركزية مباشرة، فإن الطبيعة والمناخ أو التقنية الإلكترونية قد تعاقبه، ولكن رحيل بريغوجين في هذا التوقيت وبعد سلسلة اضطرابات داخلية كان هو سببها، وإن كان بحادث طبيعي وفقاً للرواية الرسمية الروسية التي قد تكون مدعومة بتحقيقات رسمية ستجريها الأجهزة المختصة، أو بحادث مدبر، سيطرح تساؤلات حول شكل السلطة وتوزيع مراكز القوة مستقبلاً، خصوصاً أن هناك من يطرح سؤالاً أمنياً حول شركاء بريغوجين في تمرده وإذا كان على صلة بالمعسكر الذي يريد وقف الحرب.
يغيب بريغوجين وسط صراع خفي بين معسكرين، معسكر الحرب الذي يتمسك بها حتى تحقيق انتصار بات مكلفاً جداً، ومعسكر إنهاء الحرب الذي يحاول إنهاء الأعمال القتالية والاكتفاء بما تحقق على الجبهة ووقف الاستنزاف، لكن الكفة تبدو مستمرة لصالح معسكر الحرب الذي تحول من الهجوم إلى الدفاع، إذ لم تزل خطوط وزارة الدفاع صامدة أمام هجوم مضاد أوكراني لم يحقق نتائجه المرجوة حتى الآن.
ولكن وسط غياب واضح للبدائل القتالية التي كانت تملأها «فاغنر»، فكتيبة القوقاز المعروفة بقوات قاديروف فشلت في تحقيق أغلب المهام التي أوكلت إليها في أوكرانيا، كما أن عدد نخبتها القتالية على الخطوط الأمامية قليل جداً مقارنة بوحدات «فاغنز»، إضافة إلى أن زعيمها يحاول تجنيبها الإنهاك في أوكرانيا والحفاظ عليها استعداداً لاستخدامها ضد أي تمرد محتمل في شمال القوقاز بوصفه إحدى أهم بؤر التوتر التي تؤرق استقرار الكرملين، كما أن الكرملين الذي يعضّ على جرح فشل وزارة الدفاع في تحقيق أهداف ما يسميه بالعملية الخاصة، بات يشكك بقدرات قواته المسلحة على حمايته من أي انقلاب داخلي أو تمرد آخر، أو احتمال إخفاق المؤسسة الأمنية بالحد من اتساع نطاق القوى والشخصيات الرافضة للحرب وإمكانية تأثيرها المعنوي على الانتخابات الرئاسية العام المقبل وعلى صورة الرئيس بوتين الذي يعول أمنياً وعسكرياً الآن على الحرس الوطني بعد انعدام الثقة بـ«فاغنر» وتضعضع الثقة بقدرات قاديروف.