بعد ظهور حركة «تضامن» النقابية البولندية المناوئة للشيوعية، ومن ثم قيادتها التحدي الشعبي للحكم الشيوعي في بولندا، علّق محلل سياسي روسي بلهجة لا تخلو من السخرية، قائلا: «المشكلة مع جيراننا البولنديين لا تكمن في أنهم لا يفهمون التاريخ، بقدر ما تكمن في جهلهم الجغرافيا».
كلمات هذا المعلّق، الذي ما كان يتصوّر أن السنوات التالية ستحمل انهيار الاتحاد السوفياتي وتولي قادة «تضامن» السلطة، تظل صحيحة من ناحية واحدة على الأقل، هي أن دول العالم تكون في غالب الأحيان أسيرة لموقعها الجغرافي. وحالة بولندا هي بالضبط حالة دولة متوسطة الحجم تقع بين عملاقين من ذوي الطموحات الإمبريالية الكبرى، هما روسيا وألمانيا (بروسيا في الماضي)، ولا خيار لها إلا أن تُحسب في خانة إحداهما.
اليوم، بعدما اجتاحت رياح «الربيع العربي» ليبيا، كما اجتاحت دولا عربية أخرى، تعيش ليبيا وضعا صعبا. وهذا الوضع ناجم عن بضعة عوامل، أبرزها:
- طبيعة تركيبتها السكانية، الصغيرة التعداد نسبيا، وانتشارها في بلاد واسعة الأرجاء مترامية الأطراف.
- تدمير السلطة السابقة في عهد العقيد معمر القذافي عمدا، معظم مؤسسات الدولة، وتشجيعها بقصد أو من دون قصد النزعات المحلية والعرقية والقبلية.
- بناء على العاملين السابقين، تعذّر ضبط الحدود الليبية الطويلة، أمام تسلل قوى وجماعات إرهابية ومتشددة.
- ثراء ليبيا، وبعض القوى المتنفذة فيها، سابقا ولاحقا، مما يجعل منها جاذبا فاعلا للقوى المسلحة من كل الأنواع والألوان.
توافر السلاح وانتشاره في عموم أنحاء ليبيا، وتنامي الدعوات الانفصالية والقبلية والعرقية هنا وهناك، من أسباب دخول ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي «حلقة مفرغة» تقوم على معادلة مؤداها أن ضعف مؤسسات الدولة المركزية يشجع من جهة تلك الدعوات المستقوية بالسلاح على تحديها وتهديد وحدة البلاد، ومن جهة ثانية، تأخر أو تعذّر جمع السلاح من هذه الجماعات التي أسهم بعضها فعليا في الثورة على القذافي، يؤخر فترة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، بل يهدّد بقاء ليبيا دولة موحدة في ظل سلطة مدنية تتمتع بالشرعية.
بيد أن المشكلة التي تنتج عن هذا الوضع ما عاد بالإمكان حصرها داخل حدود ليبيا، بل أخذت تذر بقرنها في دول الجوار، وهذا أمر متوقع في منطقة تجمعها قواسم ديموغرافية وعقائدية مشتركة. فالفوارق الفئوية ضئيلة جدا على طول المناطق الحدودية بين ليبيا والدول المجاورة، عربية كانت كمصر وتونس والجزائر، أم غير عربية كتشاد والنيجر. ومعروف أن بعض قبائل شرق ليبيا لها وجود في شمال غربي مصر، كما تمتد جماعات أخرى داخل تونس والمغرب، ناهيك من الامتدادات الأمازيغية في الشمال، ووجود الطوارق والتبو في الجنوب.
ثم إن ظاهرة «الإسلام السياسي» حاضرة بقوة الآن في كل أقطار شمال أفريقيا، ولكن أهم ما في الأمر أن «التيار الجهادي» فيها يلعب الآن دورا نشطا يقلق القيادات السياسية، ويخلق بؤر توتر لا خيار لسلطات الدول المعنية إلا التصدي لها.
وهذه الدول تعي اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن «الفراغ» في ليبيا.. «خط أحمر».
9:28 دقيقه
TT
ليبيا: الفراغ الأمني «خط أحمر»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة