توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

الاجتهاد خارج إطار المذهب

ألقى الشيخ صالح المغامسي، وهو فقيه سعودي معروف، صخرة ضخمة في بحيرة هادئة نسبياً، يوم دعا لفتح الباب أمام الاجتهاد المطلق، بما يؤدي لظهور مذاهب فقهية جديدة.
نعلم أن الجدل الذي أعقب الدعوة راجع للقسم الثاني؛ أي المذاهب الجديدة، مع أن جوهرها في القسم الأول؛ أي الاجتهاد المطلق. وقد مهد له بالتأكيد على أن علم الفقه صنعة بشرية، ولذا تختلف آراء الفقهاء باختلاف الأزمان والظروف.
ثمة أسباب عديدة تبرر مواقف الداعين لاجتهاد مطلق، وثمة مثلها أسباب لرفض الدعوة في الجملة أو في التفصيل.
أهم المبررات الداعمة هي حاجتنا لعقلنة التفكير الديني وأحكام الشريعة. بديهي أن العقلنة المقصودة ليست مقابل الجنون أو السفه، بل العقلنة بالمعنى المعاصر؛ أي ربط المقدمات والمعايير بما تفضي إليه من نتائج. وقبل ذلك إقامة البحث على فرضيات علمية قابلة للإثبات المادي أو المنطقي.
خلفية هذه الفكرة أن العلم الحديث قد تطور وترك آثاره في مختلف جوانب الحياة، بل أمسى ضرورة للحياة السليمة الكريمة. ومن هنا اعتمد الإنسان المعاصر في حياته كلها تقريباً على نتاج العلم، كما جعل المنهج العلمي أساساً لاتخاذ أي قرار. ونتيجة لهذا التطور، فإن بعض الأحكام الفقهية القديمة لم تعد بديهية في نظر الناس، بل أمست مورد شك، في مطابقتها لواقع الحياة وحاجاتها، والنتائج التي تؤدي إليها إذا طبقت، قياساً بالأخلاقيات والنظم المماثلة التي توصل إليها العلم الحديث.
ونضرب على هذه الحجة مثالين: أولهما يتعلق بالمعاملات التي يعتبرها الفقه التقليدي ربوية، وهي تشمل كافة المعاملات المصرفية تقريباً، فضلاً عن العقود المستحدثة كالتأمين والبيع بالأجل وبيع البضائع التي لم تنتج بسعر غير محدد، وأمثالها من المعاملات التي لم تكن معروفة أو مقبولة في الأزمنة السابقة، لكنها باتت اليوم عنصراً أساسياً في الاقتصاد والمعيشة، بحيث لا يصح القول إنها تفضي للفساد أو تمحق الرزق، كما قيل في تبرير منعها، بل على العكس؛ نستطيع الجزم بأنه لولا النظام المصرفي الحديث، لبقيت الثروات العامة والخاصة تدور في محيط ضيق جداً «دُولة بين الأغنياء منكم» كما ورد في التنزيل الحكيم. ولولا الدين؛ أي تأجير المال، لما رأينا هذه الاستثمارات الضخمة، الضرورية لازدهار الحياة وتوليد الوظائف واستئصال الفقر.
المثال الثاني يتناول الأحكام المتعلقة بوضع المرأة ودورها في الحياة العامة. فالتفكير الديني بعمومه، وكل أحكام الفقه تقريباً، تميل لعزلها واعتبارها جزءاً من الحياة المنزلية، لمبررات أهمها أنها ليست كفؤاً للرجل، فلا تقوم بعمله ولا تحتل مكاناً مماثلاً لمكانه، لكنَّنا نرى بأعيننا أن هذه الفرضيات كبقاء المرأة في المنزل مثلاً، لم تعد كذلك أمام ضرورات الحياة ومتطلباتها في زمننا.
زبدة القول أن المثالين يوضحان بجلاء، وفي تجارب متكررة، أن تلك الأحكام والفرضيات التي بُنيت عليها، لا تؤدي إلى مصلحة لعباد الله ولا تصلح بلادهم. رغم هذا فالمدرسة الفقهية التقليدية في مختلف المذاهب، ما زالت لم تأخذ بما طرأ من تغير على المجتمعات.
والذي أرى أن المشكلة لا تتعلق بالاجتهاد في الفروع أو الاجتهاد داخل المذهب، ولا حل لها بتجديد أدوات تحرير أو تحقيق المناط وفهم موضوع المشكلة، كما ذكر العلامة الشيخ قيس المبارك مثلاً. المشكلة تتعلق بالاجتهاد في الأصول؛ أي منح العقل وعلم الإنسان في كل زمن، مكاناً بارزاً، في تحديد ما هو مسألة شرعية وما ليس كذلك، ثم تحديد المعايير العقلائية العادلة التي ينبغي أن يأتي الحكم مطابقاً لمقتضياتها.
الاجتهاد في الأصول ضرورة لتمكين الدين من استيعاب حاجات العصر وأهله والرد على تحدياته.