كنت قد قلت في المقال السابق إن تعليق سلامة موسى «تعارض التيارات الفكرية وضررها على التطور الاجتماعي والثقافي»، المنشور في مجلة «اللطائف المصورة»، العدد (1313)، 8 أبريل (نيسان) 1940 على رد محمود محمد شاكر على كلمة طه حسين عن الفن الفرعوني، المنشور في مجلة «الرسالة»، العدد (345)، 12 فبراير (شباط) 1940، تعليق ساذج وسطحي، باستثناء نقطة واحدة ذكرها في تعليقه.
هذه النقطة المستثناة هي قوله: «فهذا تعارض عجيب. فإننا نتوهم مما كتبه الأستاذ م.م شاكر أن الدكتور طه حسين بك أو المثّال مختار يريد منا أن نحنِّط الموتى، ونعبد (رع). مع أن حقيقة ما طلبه كل منهما إنما هو أن نستوحي هذا الفن المصري القديم، كما تستوحي أوربا فنون الإغريق. كما لا يعيب هذه الفنون عندهم أن الإغريق القدماء كانوا وثنيين. كذلك لا يعيب الفن الفرعوني أن المصريين القدماء كانوا وثنيين. ولكنا نعيب حين نحاول التفسير الفني».
العبارة الأخيرة التي قد يلتبس فهم معناها على بعض القراء يقصد بها سلامة موسى أنه حين التصدي لفن النحت بنقد فني يمكن أن نعيب هذا العمل أو ذاك بأنه مجرد محاكاة وتقليد للفن الفرعوني القديم من دون استيحاء إبداعي خاص وجديد.
النقطة التي ذكرها سلامة موسى في تعليقه، أعاد سمير غريب ذكرها بعد ثمانية وخمسين عاماً في كتابه «في تاريخ الفنون الجميلة»، لكن بصورة أوفى، فقال: «لكننا نستطيع أن نذكر في عجالة بديهية غابت عن الأستاذ محمود محمد شاكر، وهي أنه لا النحّات العظيم محمود مختار، ولا أحد غيره قال بأنه في تمثاله (نهضة مصر) يريد العودة إلى الحياة والمجتمع الفرعوني في ديانته. كما أن أحداً من نقاد الفن لم يقل (الصحيح في صياغة هذه الجملة هو: كما أن لا أحد من نقاد الفن قال) بأن مختاراً قلد الفن الفرعوني تقليداً أعمى. وأبسط دليل على ذلك أن السيدة التي تقف شامخة بجوار أبي الهول في تمثال مصر، فلّاحة مصرية بملابسها التي لم نشاهدها في أي تمثال أو صورة أو رسم فرعوني. لكن مختاراً استوحى معاني النحت الفرعوني كنحت فني، وهي معانٍ تعبر عن الشموخ والعظمة والقوة والحيوية في حاضر بلد مسلم... وهذه معانٍ ليست ضد أي دين سماوي أو (شبه)، كما قال شاكر، وأنا لا أعرف أدياناً شبه سماوية».
هنا سأنبه سمير غريب إلى أن النص الذي اقتبسه من رد محمود محمد شاكر على كلمة طه حسين عن الفن الفرعوني، لم يستخدم محمود محمد شاكر فيه كلمة «سماوي» ولا كلمة «سماوية»، فهو استخدم كلمتي «الدين» و«أديان» من دون أن يضيف للأولى كلمة «السماوي»، ومن دون أن يضيف للثانية كلمة «سماوية».
فهو قد قال في آخر النص الذي اقتبسه منه: «... سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أم إسلامياً أم غير ذلك من أشباه الأديان».
وذلك لأنه لا يجيز دينياً – مع أنه أديب وليس بشيخ دين – استخدام مصطلح «الأديان السماوية»، ولا استخدام مصطلح «دين سماوي».
لماذا؟
لأنه لم يرد في القرآن الكريم لا في صيغة المفرد (دين سماوي)، ولا في صيغة الجمع (أديان سماوية)!
أديان «سماوية» مصطلح أوروبي متأخر ظهر مع بداية اهتمام الأوروبيين بدراسة أديان أخرى غير دينهم المسيحي مع نهاية القرن التاسع عشر وشاع في بداية القرن العشرين. وقد ظهر تحديداً في ألمانيا. وقبلها في بداية القرن التاسع عشر كانت العلوم الإنسانية من علم الاجتماع والأثنوعرافيا والأنثروبولوجيا وعلم النفس قد نشأت في أوروبا، وهي العلوم المعنية بالبحث في الدين ودراسة الحياة الدينية.
وإذا ما تجاوزنا السبب المباشر لاهتمام الأوروبيين المسيحيين بالتعرف على أديان أخرى، وهو استعمارهم لشعوب لا تدين بدينهم المسيحي، وحماس مبشريهم لنشر ديانتهم بين أبناء هذه الشعوب، فلقد مهّد لظهور مصطلح «أديان سماوية» عصر التنوير الأوروبي بمفاهيمه العلمانية، كالتساهل الديني وتعدد الحقيقة والنسبية الثقافية.
أعود لسمير غريب، فأقول له: إن محمود محمد شاكر يقصد بـ«أشباه الأديان» أديان الهند وأديان الصين واليابان، والدين المجوسي أو الزرادشتية وما شابهها من أديان. وإنه استخدم هذا التعبير لاعتقاده أن وصف الدين لا ينطبق تماماً على هذه الأديان، وإنما ينطبق على اليهودية والمسيحية والإسلام؛ لأن أصحابها من أهل الكتاب.
الخلاصة هي: أن محمود محمد شاكر لا يجيز دينياً استعمال مصطلح «الأديان السماوية» من جهة، ولا يعترف بالمصطلح الذي يقابله، وهو مصطلح «الأديان الأرضية» من جهة أخرى.
وإذا كان محمود محمد شاكر بتاريخ 12 فبراير (شباط) سنة 1940، اعترف لليهودية والمسيحية بأنهما دينان، فإنه بتاريخ 15 يوليو (تموز) سنة 1965 سينزع عنهما هذه الصفة وهذه التسمية!
نزعهما عنهما في مقاله «ثمّتَ... ليس الطريق هنالك»، وهو من مقالاته في الرد على لويس عوض، المنشورة في مجلة «الرسالة»، التي جمعها في كتاب عنوانه «أباطيل وأسمار».
فبعد تتبع دقيق لكلمة «الدين» في القرآن الكريم، في آياته المكية وآياته المدنية، ولتراكيبها اللغوية المختلفة ولمعانيها المتعددة، الذي امتد في كتابه من صفحة (425) إلى صفحة (440)، أجمل تتبعه البحثي الدقيق بقوله:
«فصار بيِّناً بعد هذا أن الله سبحانه لا يرضى لنا أن نسمي شيئاً من الملل نصرانية ويهودية وغيرهما: ديناً، سوى ملّة أبينا إبراهيم عليه السلام، وملة أنبيائه جميعاً، وهي الإسلام، دين الله الذي لا يقبل من عباده ديناً سواه، والذي أرسل به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليبطل الملل كلها، ولا يكون شيء منها يسمى ديناً سوى الإسلام. وإذن فقول المسلم مثلاً: (الأديان السماوية)، قول مخالف لعقيدة أهل الإسلام في حقيقة هذه الملل التي عليها أحمرهم وأسودهم».
استناداً إلى هذه الفذلكة على المسلم أن يقول: الملة اليهودية والملة النصرانية، لا الدين اليهودي والدين المسيحي.
وكان قبل هذه الفذلكة، في أثناء توقفه عند بعض الآيات المدنية قال: «وإلى هذا نظر ابن حزم فسمى كتابه (الفصل في الملل والنحل)، وكذلك الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)»، فهما قد تحدثا عن ملل اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.
رَدّ محمود محمد شاكر على النقطة التي ذكرها سلامة موسى بلطف وتحبّب إليه، فقال في رده المنشور في مجلة «الرسالة»، العدد (354)، 15 أبريل 1940: «إن حديثنا عن الفن الفرعوني، وأنه لا يصلح أن يكون شيئاً يستمد منه الفنان في زماننا، لا يمت بصلة إلى الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ سلامة موسى في فهم كلامنا؛ لأننا نظرنا إلى شيء واحد، وهو تحرير الفن من التقليد، ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحي - كما يقول الأستاذ سلامة - من فنون غيره...».
ردّه هذا على سلامة موسى ما هو إلا مجرد إنكار لما قاله، وقائم على المغالطة والمراوغة. فهو في ردِّه على كلمة طه حسين عن الفن الفرعوني، قد قال عن تمثال «نهضة مصر» الذي نحته الفنان محمود مختار: «هل يستطيع الفنان الذي نحته وأقامه أن يعيد في مصر تاريخ الوثنية الجاهلية، واجتماع الحضارة الفرعونية، وما يحيط بذلك من الأبنية الضخمة التي شادها أوائله، والتي كانت وحياً للفنان الفرعوني الذي عبد الشمس وخضع لفرعون وأقر له بمعاني الربوبية، وآمن بالأباطيل والأساطير والتهاويل الدينية الوثنية الضخمة الهائلة المخيفة التي قذفها في قلبه أبالسة عصره من الجبارين والطغاة؟
وهل يستطيع أن يجعل في أرض مصر شعباً وثنياً متعبداً للفراعنة والجبابرة بالخوف والرهبة والرعب حتى يتأثر بمعنى هذا الضرب من الفن المصري القديم؟
ولكن أفي مصر الآن من الشعب من يستطيع أن يجد له معنى أو تأثيراً أو اهتزازاً إلا من القدم أو أخيلة القدم؟ كلّا... كلّا.
لقد ذهب كل هذا، لقد دثر، لقد باد».
في ردِّه على سلامة موسى تخلى عن هذه المحاججة ذات الطابع الديني في رفض فن نحت التماثيل، ولم يستعمل فيه تعبير الفن الوثني ولا الجاهلي، ولا حتى كلمة وثن ووثنية. وصار يستند إلى محاججة أخرى ولغة أخرى، وهي إدانته لفن العقول المزيفة بالتقليد، والخيال المدلس بالسرقة إلخ...
قول شاكر السابق: «ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحي - كما يقول الأستاذ سلامة – من فنون غيره»، هو قول لم يقله سلامة موسى في تعليقه. وقد اخترعه على لسان سلامة موسى، ليتودّد إليه ويتملقه.
فسلامة موسى ليس ضد الاستيحاء ولا الاستلهام ولا الاقتباس في الفن، ثم إن الفن الفرعوني القديم يعتبره فنّاً قومياً خاصاً بمصر، يجب بعثه وإحياؤه من جديد في مصر الناهضة في ذلك الوقت.
في رد محمود محمد شاكر على كلمة طه حسين عن الفن الفرعوني - كما رأيتم في المقال السابق - تهكم بطه حسين مرتين في مفتتح ردّ عليه، وتهكم به مرة ثالثة تهكماً لم أورده في المقال السابق، وذلك حين قال: «وليس في القراء الذين يعرفون الدكتور طه من يجهل أن أول ما يتكلم به الدكتور إن هو إلَّا أن يجعل مرد كل شيء إلى (يونان) ومدن يونان... فلا شك إذن أن أول نظام عُرف للغذاء العقلي والروحي للشباب، إنما كان في المدن اليونانية والحضارة اليونانية والعقلية اليونانية!».
وفي استعداء ديني إسلامي صارخ على طه حسين، قال عن دعوته الشباب المصري أن تكون المدنية الأوروبية العنصر الثالث في غذائهم العقلي والروحي - كما مرّ بنا في المقال السابق: كأنما يدعو فيها إلى تنصُّر الإسلام!
في حين في ردّه على تعليق سلامة موسى بعد أن فرغ من عرض وجهة نظره التي جاءت في تعليقه، تقدم له بالشكر «على حسن مقصده ورغبته في تحقيق الإصلاح الاجتماعي بإزالة كل العوامل المفرقة للناس».
وإذا كان مسوغه أمام طه حسين (المسلم) في رفض المدنية الأوروبية، أنها مدنية مسيحية، فإنه أمام سلامة موسى (المسيحي) لم يجرؤ على ذكر مسوغه هذا المزعوم، وذكر مسوغاً آخر، هو أنها «حضارة حيوانية الفضائل، ليس في أعمالها إلا فتنة بعد فتنة». واستثنى من حكمه هذا علمها البحت؛ لأنه في رأيه «استطاع أن ينفذ في بعض أسرار الكون بأسباب كأسباب المعجزات»، لكنه سرعان ما استدرك على نفسه في استثناء العلم البحت، فقال: «ومع ذلك، فقد كان هذا العلم نفسه، هو ما اتخذوه تدليساً في تمجيد حضارة القرن العشرين، ليفتنوا الناس بها عن حقيقة الإنسانية الروحية المتجردة من أغلال الحيوانية النازلة المستغلة».
وقال إن مدنية القرن العشرين مدنية حيوانية الأصول والفروع، ومدنية مفترسة ومتوحشة. واستشهد بالحرب، وكانت الحرب العالمية الثانية في بدايتها.
هذا الرأي قاله في سياق تبرير موقفه أمام سلامة موسى، بأنه لا يريد أن يرتد إلى الماضي ليعيش – كما قال – في ظلماته وكهوفه وتهاويل خرافاته!
أصف تعليق سلامة موسى «تعارض التيارات الفكرية وضررها على التطور الاجتماعي والثقافي»، بالسذاجة والسطحية؛ لأنه ينظِّر للتعارض بين التيارات الفكرية في مصر، بأنه يجب ألّا يبلغ مستوى التناقض والتنافر.
فالتناقض والتنافر بين تيارات مصر الفكرية في رأيه، يسببان قطع خيوط الانسجام ويخلان بالتوازن في المجتمع المصري. والأدهى عنده أنهما يعطلان سيره في تحقيق الرقي المنشود. وعندئذ - كما يقول - تعود الأمة المصرية وكأنها بضع أمم لكل منها حياتها وأسلوبها.
واستنجد بمن سماهم المصلحين ليتدبروا هذا الموضوع، فقد رأى «من وقت لآخر، تعارضاً لا يشبه الاختلاف في الرأي أو حتى المذهب والعقيدة، بل يشبه الاختلاف بين أمتين. ومن واجب هؤلاء المصلحين أن يقرِّبوا ويوفقوا ويعملوا للانسجام العام في الحياة المصرية العصرية. فإننا لا نعيش فقط في القرن العشرين، بل في سنة 1940 منه. ونحن مضطرون بوضعنا الجغرافي واحتكاكنا السياسي وتطورنا الاجتماعي أن نفكر بعقلية عصرية».
وبوازع من توجهه الليبرالي كان مضطراً أن يقول: «ولسنا نطالب الحكومة بمنع هذا الرأي أو مكافحة تلك العقيدة؛ لأن الحكومة عندما تتدخل تضطر إلى وضع الحدود والقيود التي تضر المعدل والمغالي سواء. ولكننا نطالب الاجتماعيين (يقصد بهم المثقفين المعنيين بقضية الإصلاح الاجتماعي الذي هو أحدهم، ولا يقصد مدرسي علم الاجتماع. فمدرسو علم الاجتماع في مصر في ذلك الوقت معظمهم من الخواجات) بأن يحاولوا التوفيق حتى لا يصير اختلاف الرأي الحر تناقضاً في العقائد المجزومة، وحتى نصبح أمة متمدنة نستطيع أن ننصت إلى الرأي المخالف في تسامح إن لم يكن في تقبل ورضى، وأن نعبر عن الرأي في اعتدال ينأى عن الحدة والتهور».
محمود محمد شاكر توجس في نفسه خيفة، فعلى طريقة «كاد المريب أن يقول خذوني»، ظن أنه هو المقصود بتذكير قاله سلامة موسى في عبارة سابقة، فقال: «كنت أحب أن ينزِّه الأستاذ سلامة موسى كلامه عن بعض التعريض... وذلك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه. فهل يظن الأستاذ أننا نعيش في غيره، أو أننا نرى أنفسنا رمماً تاريخية عتيقة قد انبعثت في أجلاد إنسان القرن العشرين؟»، ثم راح ينسلّ من جِلْدِه الفكري العتيق، ويتظاهر أمامه بأنه غير ماضوي، وأنه في تصوراته ابن الحاضر. والحاضر وقتها كان سنة 1940.
ومن البداية، محمود محمد شاكر بعد أن تقدم لسلامة موسى بالشكر، تقرّب إليه بقوله هذا: «ومن الغريب أن اليوم الذي صدرت فيه هذه المقالة في (اللطائف)، هو نفسه اليوم الذي كتبنا فيه عن (الرأي العام وسياسته)، في العدد الماضي من (الرسالة)، وقلنا إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره، حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدء لا ينتهي، وفي اختلاف لا ينفض. وكما يرى سلامة موسى أن هذا التعارض البغيض بين الآراء مما يعتاق رقي الشعب، ويمنعه من الاجتماع على رأي، ويحرمه من فضيلة القوة التي تنفذ به إلى غاياته. كما يرى نحن نرى، ونرى وراء ذلك كله ما هو أسوأ وأقبح – مما يستعاذ منه وتُخشى مغبته. فهذا إذن أمر مفروغ من تقريره بيننا وبينه، وهي رغبة نتوافى جميعاً على العمل لها، ونشري أنفسنا في سبيل إنفاذها. وكان جديراً بالأستاذ سلامة موسى أن يرى هذا الرأي في الذي كتبناه، ويعلم علم ما طويناه في نقدنا لرأي الدكتور طه، ولعله لم يقرأ كل ما كتبناه في العدد (344)، (345) من (الرسالة)، ولعله لم يتتبع ما نقول به من الرأي في باب (الأدب في أسبوع)، ولو فعل لعرف أن الرأي بيننا وبينه في ذلك غير مختلف إن شاء الله».
إن محمود محمد شاكر يعلم يقيناً أن سلامة موسى لم يقرأ الجزء الأول من ردِّه على طه حسين، المنشور في العدد (344)، من مجلة «الرسالة»، ومع ذلك قال: «لعلّه...»، فلو كان قد قرأه لما قال في تعليقه: «فقد ألّف الدكتور طه حسين بك كتاباً يدعو فيه إلى أن نجعل من الفن الفرعوني أحد العناصر في الغذاء الروحي والعقلي للشباب، فتناول هذه الدعوة الأستاذ محمد محمود شاكر (هكذا كتب اسمه) بالاستنكار». فلو قرأه، لعرف أن طه حسين لم يؤلف كتاباً ولا حتى ألقى محاضرة، وإنما هي كلمة ألحّ عليه الحاضرون في مناسبة في قاعة بالجامعة الأميركية أن يلقيها عليهم.
وهو يعلم يقيناً أن سلامة موسى قد قرأ الجزء الثاني من ردّه على طه حسين؛ لأن تعليقه عليه ينم عن أنه قرأه وتمعن في قراءته. وقد قرأه؛ لأن أحد عناوينه، كان «الفن الفرعوني»، وسلامة موسى - كما هو مشهور عنه - متعلق بالفراعنة وبمصر الفرعونية.
كذلك هو يعلم يقيناً أن الذي بينه وبين سلامة موسى مختلف جداً، وأنه لا يوجد شيء مؤتلف بينهما: سلامة موسى كعبته هي أوروبا، ويدعو إلى أوربة مصر، على عجل وبسرعة فائقة. أما هو فمتعلق بطراز البدء الإسلامي إلى حد الجمود والتيبّس عليه، وانحصار فكره وتفكيره فيه باعتباره أنه هو وحده الأنموذج المثالي.
إن دعوة محمود محمد شاكر إلى توحيد الآراء وتوحيد الثقافة في مصر ليس فيها تناقض مع اتجاهه، فاتجاهه هو اتجاه سلفي أصولي. المتناقض مع اتجاهه كان سلامة موسى. فمطالبته ليست من الليبرالية في شيء.
عرضي لما جرى بين محمود محمد شاكر وسلامة موسى، والذي ظهر فيه محمود محمد شاكر بصورة المتناقض والمستجدي والمتملق لسلامة موسى، سيصدم الإسلاميين، وسيصدم الشاكريين، بسبب أن أدبيات الإسلاميين قدمت سلامة موسى بوصفه رأس الثالوث القبطي الطائفي المتآمر على الإسلام وعلى التراث الإسلامي!
هذا الثالوث القبطي الطائفي – كما يتردد في أدبياتهم - مكوّن من سلامة موسى ولويس عوض وغالي شكري.
وهذا العرض سيثير حنقهم عليّ؛ لأني جلبت صورة من واقعة حصلت في مجلة «اللطائف المصورة» ومجلة «الرسالة»، اضمحل فيها محمود محمد شاكر أمام سلامة موسى.
وقد لا يعرف القارئ الإسلامي والقارئ الشاكري من كثرة ما تراكم من كتابات الإسلاميين عن تلك الأسماء الثلاثة – عبر عقود طويلة إلى عقدنا الحالي – على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً، أن محمود محمد شاكر ومحمد جلال كشك، كانا هما أول من زج بسلامة موسى ولويس عوض وغالي شكري – بتعصب إسلامي طائفي – في ثالوث مسيحي مدنس صوّراهم فيه بأنهم يعملون بصيغة الجبهة الواحدة والموحّدة، أو لنقل بتعبير آخر: إنهما كانا الأصل فيها واتبعهما الإسلاميون في ذلك حذو القذة بالقذة من دون أن يشير أي واحد منهم إلى أن شاكر وكشك كانا المصدر الأصلي لها. وقد اقترفا هذه الفرية على هؤلاء الثلاثة في ستينات القرن الماضي، لمجرد أنهم أقباط مؤثرون في مجرى الثقافة العربية المعاصرة بوجهها العلماني. وللحديث بقية.
TT
محمود محمد شاكر يتملَّق سلامة موسى!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة