اتساع المشاركة فيما يمكن تسميته «انتفاضة الشارع» إلى مرحلة غير مسبوقة مرشحة للانتقال لمراحل أعلى، خاصة وقد باتت مدعومة بحوالي 70 في المائة من الإسرائيليين عبروا عن رفضهم لما يسمى «الانقلاب القضائي» الذي يسعى له نتنياهو وائتلافه الحاكم. كما أن انضمام الهستدروت بمكوناتها التي تشمل مختلف نواحي الحياة، بما في ذلك المطارات والموانئ، ودعوته إلى الانضمام إلى شارع الاحتجاج، بالإضافة إلى الجامعات، وشل حركة الاقتصاد، يضع هذه الانتفاضة والوضع الإسرائيلي برمته في منعطف يحمل سيناريوهات مختلفة لا تستثني إسقاط حكومة نتانياهو. والسؤال الذي يتقدم أمام كل المتابعين؛ هل سيندفع هذا الاستقطاب الحاد في المجتمع الإسرائيلي نحو العنف؟
يبدو أن كل الاحتمالات بما فيها الصدام باتت مفتوحة، فالقوى الفاشية والأكثر تطرفاً، طالما اندفعت نحو طريق العنف لتحقيق أغراض سياسية، ولا سيما إذا شعرت أنها تفقد قدرتها على حماية مصالحها الفئوية. صحيح أن السمة العامة للمجتمع الإسرائيلي تحمل في طياتها طابع العنصرية القومية في مواجهة الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية. فقد كانت الحركة الصهيونية ممثلة بحكوماتها المتعاقبة ولسنوات طويلة قادرة على توحيد المجتمع الإسرائيلي خلف مقولة الخطر الوجودي الذي يهدد أمن وبقاء إسرائيل، وتغليب هذا الخطر على كل التناقضات والتباينات الصغيرة منها والكبيرة.
فهل هذا الأمر ما زال سارياً في ظل ما وصلت إليه هذه العنصرية، وبعد أن توهمت أنها أصبحت قادرة على حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، وهي تتطلع أيضاً لفرض سيطرتها على المجتمع الإسرائيلي، معتبرة أنها من يحقق النصر على الفلسطينيين، الأمر الذي ينعش استعلائيتها الفاشية لفرض مضمون هوية الدولة التي يخططون لها في إطار الائتلاف العنصري الذي يقوده «نتانياهو وسموتريتش وبن جفير».
الصراع في إسرائيل يدور على هوية الدولة، حيث ترى المعارضة أن «الانقلاب القضائي» يستهدف ما يعتقدون أنه توازن مزعوم بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، وهو ما نجحت إسرائيل في تسويقه منذ العام 1948 بادعاء أنها واحة الديمقراطية في محيط أنظمة الحكم الاستبدادية، الأمر الذي ساعدها إلى حد بعيد في تكريس «شرعيتها» الدولية كجزء من «الديمقراطيات الغربية» على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني، بل مكَّنها من الحصول على مساندة متواصلة لأطول احتلال في العصر الحديث، رغم انتهاكاته الصارخة لكل قواعد القانون الدولي.
من الواضح أن عدم الاكتراث الجدي من قبل أغلبية المجتمع الإسرائيلي بجريمة اغتيال رابين على يد المتطرف يغال عمير، وارتباطها باحتمالات السلام مع الفلسطينيين، أظهر مؤشراً لبداية تسرب الإرهاب الدموي داخل هذا المجتمع، كما شكل نقطة تحوُّل أوصلت إسرائيل إلى ما هي عليه اليوم. هذا بالإضافة إلى الجرائم الإرهابية التي نفذها تلامذة يغال عمير ومئير كهانا ضد المدنيين الفلسطينيين، وصلت حد حرق الأطفال والمواطنين وهم أحياء كما حدث مع جريمة محمد أبو خضير وعائلة دوايشة، وما كان قد سبقهما بجريمة غولدشتاين «ملهم بن جفير»، عندما أطلق الرصاص وقتل عشرات المصلين الفلسطينيين وهم سجود داخل الحرم الإبراهيمي في الخليل، بالإضافة إلى مئات جرائم القتل وحرق البيوت ودور العبادة وقطع وحرق أشجار الزيتون وتدمير البيوت ومصادر رزق المواطنين الفلسطينيين دون أي مساءلة قانونية جدية، بل على العكس، فقد جرت محاولات استمالة هؤلاء المستوطنين الإرهابيين وكسب رضاهم.
لم يكن ممكناً، ولن يكون بالإمكان الفصل بين العنصرية ضد الفلسطينيين لدرجة إنكار وجودهم كشعب وفقاً لتصريحات سموتريتش، وبين صعود الفاشية في مواجهة ليبرالية المجتمع الإسرائيلي ذاته. تماماً كما أنه لا يمكن الجمع بين الدين ومحاولات الخداع بتسويقه كقومية، وبين الديمقراطية الحقيقية التي لا يمكن أن تتوافق مع العنصرية.
يبدو أن عدم تراجع نتنياهو بصورة واضحة سيشعل وقود هذه الانتفاضة، ويوسع دائرة المشاركة فيها. وفي الوقت نفسه، فإن تراجعه لن ينتهي سوى بهزيمة مشروعه الذي صُمم، من وجهة نظر مناوئيه، لحماية مستقبله الشخصي في مواجهة مستقبل الدولة، لدرجة اعتبرته المعارضة أنه بات يشكل خطراً على أمن إسرائيل. كما يبدو أن هزيمة نتنياهو باتت مؤكدة، ولكن غير المؤكد هو طبيعة سلوك حلفائه الفاشيين، حيث لا يُستبعد أن يتجهوا نحو العنف الداخلي، وليس فقط الإرهاب ضد المواطنين الفلسطينيين سواء داخل إسرائيل أو في الضفة المحتلة، كما أن المعارضة ما زالت بعيدة عن إدراك الربط بين العنصرية ومحاولات الاستيلاء على القضاء والانقلاب على «ديمقراطيتهم اليهودية»، وبين مسألتي الاحتلال وضرورة الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني. فالرهان على ذلك في المدى القريب ليس سوى مجرد استمرار اللهاث وراء ملهاة الوهم.
أما السؤال الثاني المُلِّح أمام المواطنين الفلسطينيين المتسمرين أمام الشاشات لمتابعة ما يجري في إسرائيل والتطورات التي تحملها هو؛ أين هي القيادة الفلسطينية إزاء متطلبات تعميق العزلة الإقليمية والدولية التي تمر بها حكومة الائتلاف الفاشي، في وقت أن برنامج هذه الحكومة يرتكز جوهرياً على ضم الضفة الغربية وإطلاق يد حركة الاستيطان الفاشية، وبدلاً من ذلك فهي ما زالت تسير وراء الوهم كما حدث في لقاءي العقبة وشرم الشيخ؟
أما السؤال الثالث الذي يواجهنا كشعب ونحن أحوج ما نكون لتوحيد طاقاتنا وحماية قدرتنا على الصمود فهو؛ لماذا هذا الصمت على فشل السلطتين المنقسمتين، وترك المحامين وحيدين في معركة مواجهة سياسة السيطرة الشمولية للسلطة التنفيذية على سلطة القضاء؟ ولماذا أيضاً يُترك معلمو أبنائنا دون مساندة كافية نصرة للحقوق ومطالب الحد الأدنى العادلة التي يطالبون بها؟ هذا بالإضافة إلى قلة الحيلة إزاء ما يواجهنا كشعب من خطر تفتيت الكيانية الفلسطينية بانزلاق الانقسام نحو مأسسة الانفصال الجارية، التي في حال عدم لجمها قد تشكل الضربة القاضية لمشروعنا الوطني التحرري.
الوقت بات من دم وحياة، وليس أمامنا، والمنطقة بما فيها إسرائيل تموج فوق رمال متحركة تتجاوز بخطورتها وتحدياتها على شعبنا نكبة عام 1948، سوى أن نكون جزءاً حياً من حركة التاريخ، وليس مرة أخرى أول ضحاياه.
8:18 دقيقه
TT
هل تتجه إسرائيل نحو العنف الداخلي؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة