أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعليق عضوية روسيا في معاهدة نيو ستارت للحد من الأسلحة النووية ليثبت المسمار الأخير في نعش نظام الحد من التسلح الدولي الذي بناه قطبا الحرب الباردة، الولايات المتحدة وروسيا، وساهم في تمتع العالم بفترة من الاستقرار النووي وجنب البشرية خطر مواجهة نووية خلال فترة الحرب الباردة وما تلاها.
إن خطر دفن آخر ركيزة من ركائز نظام الحد من التسلح النووي يكمن في أنه يأتي في ذروة التصعيد في الحرب الأوكرانية، واستعداد الطرفين لما يطلق عليه هجوم الربيع المتوقع والتخوف من استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في أرض المعركة. ولكنه يأتي أيضاً في خضم أزمة في العلاقات الدولية، خصوصاً بين الدول النووية الكبرى، التي أدت في أغسطس (آب) الماضي إلى فشل المؤتمر العاشر لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية الذي عقد في الأمم المتحدة في نيويورك.
اللافت والمطمئن بالنسبة للخبراء هو أن الرئيس الروسي أعلن تعليق المشاركة في الاتفاقية وليس الانسحاب منها، وهذا يعني أنه ترك الباب مفتوحاً مع الولايات المتحدة ولم يوصده بالكامل. وهذه ليست أول مرة يستخدم أحد الطرفين اتفاقية نووية لإعلان غضبه أو شكوكه بالطرف الآخر. فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أعلن عام 2019 انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الـ«آي إن إف»، أي معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى التي كانت على مدى 30 عاماً ركيزة هامة في الحد من التسلح النووي، متهماً روسيا بخرق المعاهدة، ومطالباً الصين أيضاً بالانضمام إلى الاتفاقات النووية. وأدى هذا الانسحاب لجعل اتفاقية ستارت الجديدة تقف وحيدة كآخر ركيزة في الحفاظ على نظام الحد من التسلح النووي، ولكنها أيضاً كانت تقترب من موعد انتهاء مدتها.
وصول الرئيس جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض أنقذ المعاهدة، لأن أول قرار اتخذ في مجال التسلح كان التجديد للمعاهدة لمدة خمس سنوات عام 2021، لأنه، وحسب ما قال المتحدث باسم البنتاغون يومها جون كيربي، إن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتحمل خسارة فرض التفتيش الدقيق على المنشآت النووية الروسية وتبادل المعلومات حول مواقع وأعداد المنشآت والصفات التقنية لأنظمة السلاح الروسية. إن أحد بنود المعاهدة يعطي حق التفتيش المتبادل للطرفين. وكان هذا التفتيش توقف بسبب جائحة كوفيد ولم يتم بعد ذلك بسبب رفض روسيا لذلك.
كما أن المعاهدة تنص على ضرورة تبادل الطرفين المعلومات، ليس فقط عن عدد الرؤوس النووية لدى كل منهما، وإنما أيضاً إخطار الطرف الآخر عن الاختبارات النووية التي يجريها كل طرف. الولايات المتحدة وروسيا تمتلكان 90 في المائة من الرؤوس النووية في العالم، ويقول معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي الذي يرصد الترسانة النووية الدولية إن هناك 3732 رأساً نووياً منشور اليوم على صواريخ وطائرات في العالم، وحوالي 2000 منها تعود لروسيا والولايات المتحدة موجودة في حالة تأهب دائم.
ليس من الواضح بعد ما السبب الذي دفع الرئيس الروسي لاتخاذ هذا القرار، خصوصاً أن المحادثات النووية كانت القناة الوحيدة المتبقية لأي نقاش بينه وبين واشنطن، وهو هنا يخسر كما تخسر أميركا. فهل هو رد فعل على زيارة الرئيس بايدن إلى أوكرانيا والتهويل على الغرب لردعه عن الهجوم المتوقع في الربيع، ورغبته في جعل أعدائه متخوفين مما يعد لهم، خصوصاً أنهم الآن أصبحوا أقل قدرة على رصد تحركات قواته النووية في المستقبل؟
واشنطن كانت لا تزال تأمل في استئناف المحادثات حول تفتيش المواقع النووية الذي كان من المفترض أن يتم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في مصر من أجل وضع خريطة طريق لاستئناف عمليات التفتيش، حسب مجلة «فورين بوليسى». ويظهر حرص واشنطن على إبقاء هذا الخيط الأخير حول السلامة النووية من الانقطاع من خلال رد فعل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على الإعلان الروسي الذي وصفه بأنه «مؤسف جداً وغير مسؤول»، ولكنه في الوقت نفسه أعلن استعداد واشنطن للمفاوضات مع موسكو حول المعاهدة.
لكن خطورة الوضع اليوم هي أن الطرفين فقدا القدرة على معرفة تحركات الطرف الآخر النووية، في الوقت الذي يتواجهان فيه في ساحة حرب في أوروبا، وإن بشكل غير مباشر لواشنطن. فمن مصلحة الطرفين ألا ينقطع الخيط النووي من أجل التحقق من نيات الطرف الآخر قبل حصول الكارثة.
لقد كان شعار الولايات المتحدة خلال مفاوضات الحد من التسلح الذي رفعه الرئيس رونالد ريغان مع الرئيس الروسي غوربيشيف هو «ثق ولكن تحقق». اليوم هناك انعدام ثقة تام بين واشنطن وموسكو وجرى تعليق الوسيلة الوحيدة المتبقية للتحقق من وفاء كل من الطرفين بالتزاماتهما، حيث تعد الركيزة الوحيدة التي يمكن أن تجنبهما الانزلاق إلى مواجهة، سواء عن طريق الخطأ بالحسابات أو مجرد خطأ في التقدير.
بالطبع روسيا تستطيع تغيير هذا الواقع إذا عادت إلى تطبيق المعاهدة بكل بنودها، ولكن روسيا ترى الحرب في أوكرانيا حرباً وجودية اليوم إذا ما استمعنا جيداً لما يقوله الرئيس بوتين. قال في خطابه: «إنهم (يعني الغرب) يريدون تكبيدنا هزيمة استراتيجية، ولكن يريدون في الوقت نفسه الوصول إلى منشآتنا النووية». هذا في رأيه «كلام فارغ».
وحذر من أنه لا يجب أن «يتوهم أحد أنه يمكن تدمير الندية الاستراتيجية العالمية»، لذلك فإنه يعطي الولايات المتحدة وحلفاءها خيارين: إما أن يستهين الغرب به وبقدراته النووية فيواجه خطر العيش تحت رحمة خطر عدم معرفة خطوته المقبلة بما فيها نووياً، أو باستمرار الوضع النووي الراهن، وإن كان يرتكز على ركيزة وحيدة ينتقي هو ما يريد تطبيقه منها. وكان هذا واضحاً من قراره التعليق وليس إلغاء المعاهدة، وأيضاً من تأكيده أن روسيا لن تجري اختبارات نووية جديدة إلا إذا فعلت أميركا ذلك أولاً. وهذا كلام سياسي ولا علاقة له بالواقع لأن كلاهما عضوان في اتفاقية حظر الاختبارات النووية، حيث كان آخر اختبار نووي أجراه الاتحاد السوفياتي عام 1990، وآخر اختبار أميركي 1992. كما كان واضحاً أن روسيا لا تريد التخلي عن التزاماتها تجاه المعاهدة بالرغم مما قاله بوتين من خلال بيان وزارة الخارجية الروسية الذي أكد أن روسيا ستستمر في الالتزام بالسقف الأقصى الذي تحدده المعاهدة لعدد الرؤوس النووية التي يمكن نشرها. المجال الوحيد الذي ترفضه موسكو وتعتبره ورقة هامة في التعامل مع واشنطن هو التفتيش.
إذن نحن لسنا أمام قرار روسي ببدء سباق تسلح جديد. إننا أمام جولة جديدة من المعركة في أوكرانيا، ورسالة روسية للغرب تذكره بأنها تمتلك ربما أكبر ترسانة رؤوس نووية. هل هذا للردع فقط أم أنه يمكن أن يتطور إلى ما هو أخطر؟
إن العالم لا يستطيع أن يتحمل تبعات معرفة الجواب، خصوصاً إذا كان يعني استخدام السلاح النووي ولو كان تكتيكياً ومحدوداً. لنأمل أن يكون ما وراء إعلان الرئيس الروسي هو فقط مجرد «فشة خلق»، وأنه يخاطب بايدن الذي كان على مرمى حجر من قواته في أوكرانيا، ويقول إن لديه أوراقاً يمكنه استخدامها. إن أي تصعيد جديد من الطرفين سيقرب العالم أكثر إلى حافة الهاوية.
وربما يجب تذكير الدول الكبرى بأمرين: أولاً، بالبيان الذي أصدرته الدول الخمس الكبرى (الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا) في يناير (كانون الثاني) 2022 قبل شهر من الهجوم الروسي على أوكرانيا، وأكدت فيه أن «الحرب النووية لا يمكن الانتصار فيها، ولا يجب أن تشن أبداً». والأمر الثاني هو التذكير بأن ساعة نهاية العالم التي تضعها نشرة علماء الذرة قد أشارت في 24 يناير إلى أن العالم أصبح على مسافة 90 ثانية من منتصف الليل، أي آخر ساعة بسبب الحرب في أوكرانيا وغيرها من الأسباب. لا شك أن هؤلاء العلماء يقومون الآن بتقريب عقارب الساعة أكثر من منتصف الليل بعد إعلان الرئيس بوتين.
8:2 دقيقه
TT
حرب أوكرانيا: سباق تسلح جديد ونووي يلوح في الأفق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة