عندما تسير في أي شارع ستقابل مشهداً مألوفاً: الناس يلوون أعناقهم وهم ينظرون إلى هواتفهم. إلا أنه في المستقبل غير البعيد، من المحتمل أن نحدق فقط في المعلومات الرقمية التي تحوم حول العالم أمامنا، بالاعتماد على مزيج من العالمين الرقمي والحقيقي، وكل ذلك بفضل الواقع المعزز.
في مبنى إداري عادي في ساراتوغا بكاليفورنيا، يعمل العشرات من المهندسين على تحقيق ذلك المستقبل، من خلال إنتاج نماذج أولية على أساس أسبوعي لعدسات لاصقة ذكية محشوة بدوائر صغيرة وبطاريات وواحدة من أصغر شاشات العرض في العالم.
وعندما زرت مكتب شركة «موجو فيجن» في يوليو (تموز)، حملت العدسة اللاصقة الذكية للواقع المعزز على بعد بوصة واحدة أمام عيني لتجربة ميزاتها، وتحويل المؤشر حول المساحة أمامي عن طريق تحريك العدسة. ونظراً لأنني لم أتمكن من ارتداء العدسات اللاصقة، فقد استخدمت جهازاً يجري ارتداؤه على الرأس للواقع الافتراضي لاختبار تكنولوجيا تتبع العين والتطبيقات التجريبية، وتوجيه مؤشر صغير عن طريق تحريك عيني ببساطة. وكان بإمكاني القراءة من جهاز تحكم رقمي يعرض سلسلة من الكلمات أثناء تحريك عيني، وأمكنني كذلك أن أنظر حول الغرفة لأرى الأسهم التي تشير إلى الشمال والغرب، وهي مصممة لمساعدة المستخدمين في التنقل في الأماكن المفتوحة.
ومن أجل النقر على أحد التطبيقات المنتشرة حول دائرة تحوم أمامي، نظرت ببساطة إلى علامة تبويب صغيرة بجوار التطبيق لثانية إضافية. ظهرت الأرقام والنصوص في مجال الرؤية العلوي، حيث تظهر، على سبيل المثال، سرعة دراجتي، أو عرض معلومات عن الطقس، أو إعطائي معلومات عن رحلة قادمة. ومن أجل إغلاق التطبيق، تحولت بعيني بعيداً عن هذه المعلومات لثانية كاملة.
من ناحيتهم، تحدث التقنيون لسنوات حول ما ستكون عليه منصة الحوسبة التالية، بعد عقد من استبدال الأجهزة المحمولة من خلال حوسبة سطح المكتب كبوابتنا الأساسية للإنترنت. في هذا الصدد، يضع مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا»، رهانه على «ميتافيرس»، عالم افتراضي من المقرر أن ينغمس فيه الإنسان بالكامل من خلال ارتداء جهاز على الرأس.
إلا أنني أعتقد أن التحول الأكبر سيكون نحو الواقع المعزز، حيث تعرض النظارات أو العدسات اللاصقة معلومات عن العالم من حولنا حتى نتمكن من رؤية العالم عبر الإنترنت والعالم الحقيقي في آنٍ. إذا كان هناك شيء واحد يحب البشر القيام به (رغم كونه سيئاً في كثير من الحالات) فهو الاضطلاع بمهام متعددة. مستقبلاً، ستصبح الهواتف أشبه بخوادم صغيرة تنسق جميع الأجهزة المختلفة التي سنرتديها بشكل متزايد على أجسادنا: سماعات الأذن والساعات، وقريباً النظارات، وهي أحدث قطعة في أحجية الحوسبة غير المرئية.
وفي هذا السياق، تبدو عدسات «موجو فيجن» بمثابة أعجوبة في عالم الهندسة، وربما من أكثر مشروعات الأجهزة طموحاً داخل «سيليكون فالي» في الوقت الحاضر. وكان على الشركة تطوير المواد الكيميائية والمركبات البلاستيكية الخاصة بها، والتي من شأنها أن تسمح لمقلة العين بالتنفس من خلال عدسة مغطاة بالإلكترونيات. وعندما حملت العدسة في يدي، كانت سميكة على نحو ملحوظ، وكبيرة بما يكفي لتمتد إلى ما وراء القزحية لتغطية أجزاء من بياض العين.
في هذا الصدد، قال ديفيد هوبز، المدير الأول لإدارة المنتجات في الشركة الناشئة، والذي ارتدى عدة نماذج أولية بالفعل: «إنه ليس أمراً مزعجاً».
وتشتمل العدسة على تسع بطاريات تيتانيوم من النوع الذي يوجد عادة في أجهزة تنظيم ضربات القلب، ودائرة مرنة أضيق من شعرة الإنسان تتولى توفير كل الطاقة والبيانات. كما تتولى مرآة محدبة قليلاً عكس الضوء عن عاكس صغير، في محاكاة ميكانيكا التلسكوب، والذي يكبر البيكسلات المعبأة داخل ميكرونين اثنين فقط، حوالي 0.002 ملليمتر. من على بُعد أمتار قليلة، تبدو هذه الشاشة الصغيرة وكأنها نقطة شديدة الصغر من الضوء. ومع ذلك، فإنه عندما نظرت من خلال العدسة عن قرب، أصبح بإمكاني مشاهدة مقطع فيديو.
وكان بإمكاني تخيل أشخاص يشاهدون مقاطع فيديو عبر «تيك توك» في هذا اليوم، لكن «موجو فيجن» تريد أن تكون للعدسة استخدامات عملية. عن ذلك، قال ستيف سنكلير، نائب الرئيس الأول لشؤون المنتجات والتسويق، إن المعلومات التي تعرضها العدسة على عينك يجب أن تكون «مقتطفات ضيقة للغاية وسريعة». ومع ذلك، لا تزال الشركة تعمل على اكتشاف «حجم المعلومات الذي يمثل الكثير للغاية من المعلومات»، طبقاً لما ذكره سنكلير، الذي عمل سابقاً في فريق المنتج داخل شركة «آبل إنك» التي طورت جهاز «آيفون».
في الوقت الراهن، تعمل «موجو فيجن» على ابتكار عدسة للأشخاص المعاقين بصرياً تظهر حوافاً رقمية متوهجة متراكبة على الكائنات لتسهيل رؤية هذه الكائنات. علاوة على ذلك، تختبر الشركة واجهات مختلفة مع الشركات التي تصنع تطبيقات للجري والتزلج ولعب الغولف للهواتف، من أجل نوع جديد من عرض النشاط من دون استخدام اليدين. وقال سنكلير إنه حال عدم حدوث عثرات تنظيمية، سيكون بإمكان المستهلكين شراء عدسة «موجو» بوصفة طبية مخصصة في غضون أقل من خمس سنوات. ربما يكون هذا جدولاً زمنياً طموحاً بالنظر إلى أن مشروعات الواقع المعزز الأخرى قد تأخرت أو، مثلما الحال مع «غوغل غلاس»، لم ترقَ إلى مستوى الضجيج الذي أثير حولها.
من ناحيتها، أخفقت شركة «ألفابيت إنك»، الشركة الأم لـ«غوغل»، كذلك في طرح عدسات لاصقة ذكية للاستخدام الطبي. ومع ذلك، فإنه بشكل عام، تولت شركات التكنولوجيا الكبرى قيادة الكثير من جهود التطوير حول الواقع الافتراضي والمُعزز. وأفادت «بلومبرغ نيوز» بأن شركة «آبل» تعمل على ابتكار نظارات الواقع المعزز الخفيفة الوزن والتي تخطط لإصدارها في وقت لاحق من هذا العقد. وفي وقت ما من العام المقبل، من المتوقع كذلك أن تطلق الشركة جهازاً يجري ارتداؤه على الرأس يعمل بتقنية الواقع المختلط، والذي جرى عرضه على مجلس إدارتها في مايو (أيار).
يذكر أنه في الوقت الراهن، يهيمن «فيسبوك» على مبيعات أجهزة الواقع الافتراضي من خلال جهاز الرأس «كويست 2». وفي الوقت ذاته، يتسابق «فيسبوك» لإطلاق أول نظارات للواقع المعزز عام 2024، طبقاً لتقرير نشر في أبريل (نيسان) في «فيرج».
والتساؤل الآن: لماذا يستغرق الواقع المعزز وقتاً أطول؟ لأنه يدمج العناصر الرقمية مع الأشياء المادية في مشهد يتحرك باستمرار. وتعد هذه مهمة معقدة تتطلب قدراً كبيراً من قوة المعالجة. ومع ذلك، فإن رغبتنا في الحفاظ على قدم واحدة على الأقل في العالم الحقيقي تعني أنه من المحتمل أن نقضي المزيد من الوقت في الواقع المعزز على المدى الطويل.
أما المسألة الكبرى هنا فهي كيفية الموازنة بين الوجود في الحياة الواقعية مع مشاهدة المعلومات الرقمية باستمرار. اليوم، يستغرق الأمر بضع ثوانٍ لإخراج الهاتف وتشغيل أحد التطبيقات وتنفيذ مهمة على شاشته. في المستقبل، سنتمكن من الولوج إلى تطبيق ما بمجرد النظر إليه لمدة ثانية إضافية. وسيثير ذلك بدوره مختلف القضايا الشائكة حول الإدمان وكيفية تفاعلنا مع العالم من حولنا.
من جهته، أوضح سنكلير أن نفس السؤال طرح عليه منذ سنوات عندما كان يعمل على «آيفون». وقال: «لا أستطيع أن أقول كيف سنعمل في (موجو) على معالجة هذا الأمر، لكن التيار العام يتحرك في هذا الاتجاه، حيث سيتمكن الناس من الوصول الفوري إلى المعلومات».
سواء باستخدام العدسات اللاصقة أو النظارات، ستطلع العين البشرية على عالم يسبح في معلومات رقمية أكثر من أي وقت مضى، وسيكون لدى أدمغتنا الكثير لتعتاد عليه.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»