حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

وراء أكمة البوركيني ما وراءها

دعونا نبدأ الحديث عن هذا الموضوع الشائك المقلق بحادثة ظريفة، فقد حاولت مدينة غرونوبل الفرنسية الإمساك بعصا الحريات الفرنسية من الوسط، فسمحت للمسلمات الفرنسيات بارتداء البوركيني (بدلة سباحة تغطي كامل الجسم ما عدا الوجه واليدين والقدمين)، وسمحت أيضاً لغيرهن بالسباحة عاريات الصدر، لكن مسؤولاً حكومياً فرنسياً بارزاً عن منطقة غرونوبل أزاح اليد التي تمسك بالعصا من الوسط وأمسكها من طرفها «العريان»، فمنع المسلمات من لبس البوركيني وسمح لغيرهن بكشف الثديين.
قلق مسلمي فرنسا ومن يساندهم من معتدلي الغربيين ودعاة حقوق الإنسان، هو ليس بسبب قرار أعلى محكمة إدارية فرنسية الأسبوع المنصرم بحظر هذا النوع من لباس السباحة، فالبوركيني في النهاية لباس بسيط لنوع من الترف العابر أو المتعة المؤقتة لا يستوجب قلقاً شديداً، المقلق جداً أن حظر البوركيني سيكون خرزة في عقد منفلت ستكر بعدها العشرات من المحظورات والتضييقات والتقييدات والإسلاموفوبيات، وليس أسهل من الاستعانة بفريق من المحامين والقانونيين من اليمين المتشدد، ففي جعبتهم عشرات الذرائع والحجج، كما تترس بها اليمين الهندوسي المتشدد الحاكم في الهند لتبرير ممارساته العنصرية ضد مسلمي الهند، وكانت النازية بررتها في ألمانيا ضد اليهود، ومتشددي الصرب ضد مسلمي البوسنة.
لقد أمست الحريات الفردية تنتكس في فرنسا وغيرها في القرن الواحد والعشرين، فالتشريعات الفرنسية الرسمية، وليست الأحزاب اليمينية المتشددة، فرضت مؤخراً حرمان شريحة من مواطنيها من تطبيق مظاهر دينية عادية لا تتماس مع أي ملة أو نحلة ولا تخدش حريات ولا تؤثر على حقوق، مثل التشريع الذي أقره مؤخراً مجلس الشيوخ الفرنسي بحظر الحجاب على الفتيات «الفرنسيات» دون سن 18 عاماً، وكذلك حظر ارتداء الآباء المسلمين الفرنسيين لرموز دينية ظاهرة أثناء مرافقتهم للأطفال في الرحلات المدرسية، وآخرها الأسبوع الماضي بمنع لبس «البوركيني»، والقادم قد يكون أسوأ.
قطعاً سيرتبك المسؤولون والمشرعون الفرنسيون «الإقصائيون» لو سألتهم: لو أن فتاة فرنسية دون سن الثامنة عشرة ارتدت لبس راهبة مسيحية، وهو لبس يشبه الحجاب الإسلامي، فهل ستتعرض للمساءلة القانونية؟ أو لو أن متديناً يهودياً اعتمر «الكيباه»، (وهو غطاء الرأس المستدير الذي يعتمره اليهود الأرثوذكس الذي لا يجيز ذكر الرب على فم من كان رأسه مكشوفاً)، وأراد مرافقة ولده في رحلة مدرسية، فهل سيقال له: القانون الفرنسي يحظر ارتداء الآباء لرموز دينية ظاهرة أثناء مرافقتهم للأطفال في الرحلات المدرسية؟ أو لو كان هذا الأب من السيخ الفرنسيين، فهل ستخيره المدرسة بين خلع عمامته أو خلع حقه في مرافقة ولده؟ طبعاً الجواب في الحالات السابقة كافة هو (لا).
كان بعضنا يحسن الظن في التوجه اليميني المتطرف الذي شن حملة على النقاب حتى حظره عدد من الدول الأوروبية، بحجة أن النقاب يشكل عائقاً قانونياً وأمنياً، فما الذي يمكن لمحسني الظن أن يقولوه بعد التضييق على لبس الحجاب العادي الذي تلبسه الراهبات، وما موقفهم بعد محاصرة عمامة المسلمين التي يلبسها السيخ ويعتمرها اليهود الأرثوذكس، وأخيراً البوركيني؟
كرة الثلج اليمينية العنصرية في الغرب تتدحرج وتكبر، وستكتسح كل الديانات والمذاهب الأخرى، ما لم يضع عقلاء الغرب عصا في دولابها.