من المخزي أن تمر الذكرى السنوية الثمانون للهجوم الذي تعرض له ميناء «بيرل هاربور» دونما اهتمام عام يُذكر. والمؤسف أننا نعيش اليوم في عصر يحمل بعض أوجه التشابه غير السارة مع الفترة التي سبقت الهجوم الياباني. والواضح أننا نفقد اليوم القدرة على الدهشة التي يمكن أن تعيننا على توقع أو تحاشي كارثة مماثلة في المستقبل.
وتكمن نقطة التشابه الأولى في أنه على ثلاثة أصعدة مختلفة، تقف الولايات المتحدة في مواجهة خصوم أقوياء يسعون وراء مخططات إقليمية عدائية.
في المرة السابقة، تمثلت هذه القوى المعادية العدائية الثلاث في ألمانيا في أوروبا، واليابان في آسيا، وإيطاليا في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. أما هذه المرة، فقد أصبحت القوى الثلاث هي: روسيا التي ربما تقْدم على غزو أوكرانيا قريباً في تحدٍّ صارخ لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، والصين التي تبني آلة حربية، استعداداً للاستيلاء على تايوان، وإذا لزم الأمر، إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة في حرب مفتوحة، وأخيراً إيران التي حوّلت لبنان وسوريا وأجزاء من العراق وغزة واليمن إلى دول وكيانات عميلة بينما تقترب من عتبة التحول إلى دولة نووية.
أما نقطة التشابه الثانية، فهي أنه في كل حالة من الحالات الثلاث هذه، لم يكن التحدي الذي تجابهه الولايات المتحدة إقليمياً فحسب، وإنما حمل طابعاً آيديولوجياً كذلك.
من جهتها، ترفض روسيا والصين وإيران فكرة النظام الدولي الليبرالي من أساسها. وكذلك، ترفض أيضاً الديمقراطية وحقوق الإنسان كمُثُل سياسية. وتنظر الدول الثلاث إلى الغرب باعتبار أن الحريات الشخصية هناك تؤدي إلى الانحلال الأخلاقي وتراجع القدرة على التضحية الجماعية. وتعتقد هذه الدول أن الاستبداد غير الليبرالي يمثل موجة المستقبل، وليس موجة من الماضي.
وأخيراً، تتمثل نقطة التشابه الثالثة في أن الأهداف المباشرة لأعمالهم العدوانية ضعيفة نسبياً. وجدير بالذكر هنا أن تايوان تخطط حالياً لزيادة ميزانيتها العسكرية، إلا أنها تنفق فعلياً في الوقت الحاضر 2% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع.
أما أوكرانيا، فقد أرهقتها سنوات من الصراع الهادئ مع الانفصاليين المدعومين من روسيا، ناهيك عن الفساد وغياب الكفاءة اللذين سادا البلاد طوال الأعوام الـ30 منذ الاستقلال. ومن جهتها، عمدت إيران إلى استغلال الفوضى التي أعقبت «الربيع العربي» وانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط لتسليح وتشجيع من يعملون عنها بالوكالة من «حماس» مروراً بـ«حزب الله» وصولاً إلى الحوثيين.
وتتمثل نقطة تشابه رابعة في أن الولايات المتحدة - مثلما كانت الحال مع بريطانيا وفرنسا وأميركا في ثلاثينات القرن الماضي - تبدو مرتبكة وجريحة، بينما جُل اهتمامها منصبٌّ على الداخل، في الوقت الذي كانت فيه غير واثقة من رغبتها في الاضطلاع بدور الضامن لسلامة الدول المهددة.
عام 1935 وقبيل غزو إيطاليا لبلاد الحبشة (مثلما كان يطلق على إثيوبيا آنذاك)، سخرت مجلة «بنش» الأسبوعية البريطانية من رد الفعل الغريب الواهن في مواجهة العدوان الاستبدادي بقصيدة ساخرة قالت كلماتها: «لا نريدك أن تحارب، لكن إذا حاربت نقسم لك أننا سنصدر بياناً مشتركاً يلمح إلى عدم رضانا عنك».
ويمكنك مقارنة هذا ببعض الأفكار التي يجري تبنيها أو التفكير فيها في الوقت الراهن لمعاقبة خصومنا. مع الصين، تنوي واشنطن إرسال رياضيين، لكن ليس دبلوماسيين، إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. أما روسيا، فتدرس إدارة بايدن «منع النخبة الروسية الحاكمة الفاحشة الثراء من استخدام بطاقات الائتمان (فيزا، وماستركارد)»، طبقاً لما كشفته صحيفة «نيويورك تايمز». وفيما يخص إيران، تحذّر الإدارة الأميركية من أنها مستعدة لاستخدام «أدوات أخرى» إذا فشلت الدبلوماسية فيما يخص البرنامج النووي الإيراني - تحذير كان يمكن أن يبدو أكثر خطورة لو لم يكن نموذجاً دبلوماسياً أميركياً متبعاً لما يقرب من عقدين.
وتتمثل نقطة تشابه خامسة في أن ميزان القوة العسكرية يتحول على نحوٍ متزايد ضد الغرب. ومع أن الولايات المتحدة لا تزال تملك أقوى جيش في العالم وأكثره تطوراً من الناحية التكنولوجية، مثلما كان الحال مع بريطانيا التي كانت تمتلك أكبر قوة بحرية، وكذلك فرنسا التي امتلكت جيشاً ضخماً قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، فإن هذا لا يمنع من أن واشنطن ستجابه ضغوطاً شديدة كي تتمكن من بناء قوة حاسمة لمواجهة الصين في حرب حول تايوان، والتي ستحاول الصين الفوز بها بسرعة، مع تعريض قلب أميركا للخطر بفضل ترسانتها النووية المتنامية.
علاوة على ذلك، اقترف البنتاغون خطأ تركيز القوة النارية في عدد صغير من المنصات الباهظة الثمن والمعرّضة للخطر، مثل حاملات الطائرات، بدلاً من توزيع الطاقة عبر أعداد كبيرة من المنصات الجيدة بما يكفي.
ويعني ذلك أن الجيش الأميركي أصبح هو نفسه، من بعض النواحي، «بيرل هاربور» كبيراً؛ صفاً رائعاً من البوارج الضخمة، لكن جدواها مشكوك فيها، راسية في ميناء كنّا نظن أنه آمن.
من المؤكد أن بعض القراء يسعون لإحداث ثغرات في هذه المقارنات التاريخية، التي يوجد منها الكثير بالتأكيد. مثلاً، ربما يكون فلاديمير بوتين ديكتاتوراً، لكنه ليس هتلر. كما أن الصين تسعى لضم تايوان إليها من جديد منذ أكثر من 70 عاماً، وبالتالي فإن هذا لا يعني تلقائياً أنها تسعى للتوسع الاستعماري في شرق آسيا. أما إيران، فرغم كل ما يحمله نظامها من حقد دفين، فإنها تشكل قوة من الدرجة الثانية على أفضل تقدير.
ومع ذلك، فإنه ليس كل أوجه غياب التشابه تميل لصالحنا. على سبيل المثال، كان الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل قائدين عظيمين قادرين على بث الثقة الوطنية في نفوس مواطنيهم، وحتى بين خصومهم الحزبيين. أما الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون، فلا ينطبق عليهما هذا الوصف.
بعد هجوم «بيرل هاربور»، عقد الأميركيون عزمهم، حسب عبارة روزفلت الشهيرة، على «الفوز حتى تحقيق النصر المطلق»، فهل نحن كذلك اليوم؟ في ذلك الوقت أثبت الغرب قدرته على الرد على المفاجآت الرهيبة بمفاجآت من جانبنا، وفرض تكاليف مدمرة على الأعداء الذين خيَّلت لهم سذاجتهم أننا متراخون وضعفاء، فهل لا نزال على هذه الحال اليوم؟ أم أننا نسينا هذا الشعور، مثلما نسينا ذكرى «بيرل هاربور»؟
- خدمة «نيويورك تايمز»