د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

أوروبا عدوة أوروبا

تتعرض أوروبا اليوم لأزمات عدة تجعل المتأمل في خططها المستقبلية ووضعها الحالي في حيرة من مدى إمكانية تطبيق هذه الخطط والسياسات على أرض الواقع. وتعاني أوروبا أزمات في التعدين، واليد العاملة، والطاقة، تجعل مهمتها في تحقيق الاستدامة البيئية ومحاربة التغير المناخي في غاية الصعوبة. وما يثير الاستغراب أن التوجهات السياسية لبعض الدول الأوروبية تبعد أوروبا أكثر عن أهدافها. وسوف أتناول بعض هذه الأزمات بشكل أكثر تفصيلاً...
فالأزمة الأولى التي قد تتعرض لها أوروبا خلال العقد المقبل تتعلق بوفرة المعادن، فلكي تستطيع أوروبا تصنيع توربينات الرياح والألواح الشمسية لتوليد الطاقة المتجددة، فهي بحاجة ماسّة إلى معادن مثل المغنسيوم؛ أحد العناصر الرئيسية في تصنيع الألمنيوم المستخدم في صناعة السيارات والطائرات ومكونات الأجهزة، والذي يعد أحد أهم العناصر لتخفيف أوزان السيارات لتوفير استهلاك الطاقة. وقد كانت أوروبا في يوم من الأيام أحد أكبر منتجي المغنسيوم؛ إلا إن القرارات السياسية المتعلقة بالصناعات أدت إلى اضمحلال هذه الصناعة في أوروبا. وقد أوضحت وكالة الطاقة الدولية أن الطموحات الأوروبية في محاربة التغير المناخي لا تتسق مع وفرة المعادن لديها. واليوم تعتمد أوروبا بشكل كامل تقريباً على المغنسيوم الصيني، حيث تستورد 95 في المائة من الصين، وحين تأثر الإنتاج الصيني مؤخراً بفعل أزمة الطاقة، تأثرت المصانع الأوروبية بشكل كبير نتيجة لهذا. لذلك؛ فأوروبا في حاجة ملحّة إلى بدء نشاطات التعدين لتلبية الطلب المستقبلي، ولا يبدو ذلك سهلاً في ظل التحزبات البيئية التي تهاجم أنشطة التعدين.
الأزمة الثانية هي اليد العاملة؛ فأوروبا اليوم قارة عجوز ليس لعراقتها التاريخية؛ بل لأنها أعلى قارة في معدل الأعمار، وقد ساعدت حركة المهاجرين إليها بشكل كبير في تدعيم قواها العاملة. ولكن هذا الدعم قد لا يستمر طويلاً لأسباب سياسية؛ منها حركة اليمين الأوروبي لوقف المهاجرين إلى أوروبا. والأكثر غرابة هو بعض الجماعات البيئية في أوروبا، والتي تدعو إلى تحديد النسل للحد من الانبعاثات الكربونية، مصدرة دراسات توضح الانبعاثات الكربونية التي يتسبب فيها الإنسان خلال حياته، وكيف يمكن التخفيف من هذه الانبعاثات بعدم الإنجاب. وقد أجرت صحيفة ألمانية مقابلة مع معلمة تطالب بإعطاء حوافز للإناث بنحو 50 ألف يورو لتحفيزهن على عدم الإنجاب. ومعدل الإنجاب في أوروبا في انخفاض مستمر بالفعل، فعلى سبيل المثال؛ بلغ معدل الإنجاب في بريطانيا 16 لكل ألف نسمة في عام 1958، بينما انخفض هذ الرقم إلى 11 فقط في عام 2018.
الأزمة الثالثة هي الطاقة؛ فكما هي الحال مع مناجم المعادن، حارب كثير من الدول الأوروبية (مثل هولندا وبريطانيا) مصادر الطاقة فيها بدعوى المحافظة على المناخ. ولم يكن ذلك بشكل تدريجي، بل حدث خلال سنوات قليلة، متسبباً في أزمة في الطاقة اتضحت بشكل جلي في الأشهر القليلة الماضية. وفيما لو كانت أوروبا في الماضي تعتمد بشكل جزئي على الغاز المستورد من روسيا، فهي اليوم تعتمد بشكل شبه كلي على هذا الغاز. وأوروبا لا يمكن لها الاستغناء عن الغاز الذي تعده مرحلة تحولية نحو الطاقة المتجددة، وقد تستمر في احتياج له لعقدين على الأقل.
إن المتأمل في القارة العجوز يراها تغوص في ورطة بشكل تدريجي، فهي مندفعة ومتعجلة إلى مكافحة التغير المناخي؛ بما في ذلك من فرض سياسات محلية مؤثرة على الاقتصاد. وهي - بضغط من الأحزاب البيئية - تسعى إلى فرض رسوم على المعادن الصينية بدعوى أنها ملوثة للبيئة، وقد سبق لها قبل سنوات فرض رسوم بزعم أن الصين تغرق الأسواق بمنتجات مدعومة حكومياً.
في كل الأحوال؛ فإن أوروبا لا يمكنها تحقيق أي من خططها المستقبلية دون الصين شاءت أم أبت. وقد أوضحت تقارير مؤخراً إدراك الناخب الأوروبي أنه قد يدفع فاتورة السياسات الأوروبية الجديدة، فغالبية هذه التحولات السريعة نحو الطاقة المتجددة سيجري تمويلها من أموال دافعي الضرائب، الذين دفعوا بالفعل فاتورة غير مباشرة لهذه السياسات بدفع أسعار مضاعفة للغاز المستورد.
ويبدو أن أوروبا بنفسها تناقض خططها المستقبلية، فهي تريد تصنيع معدات للطاقة المتجددة، ولكنها تحارب استيراد موادها الخام من دول ملوثة للبيئة كالصين، وهي لا تملك اليد العاملة الكافية ومعدل الأعمار فيها في ارتفاع مستمر؛ لكنها تحارب حركة المهاجرين إليها، وهي في حاجة إلى الطاقة لأغراض الصناعة والتدفئة، ولكنها تسعى إلى إغلاق شركات الطاقة ولا تحاول مسايرة روسيا موردها الأكبر للغاز، والأمر يبدو من بعيد كأن أوروبا عدوة لأوروبا.