مرت على العالم ليلة من دون «السوشيال ميديا»، وتعطل موقعان وتطبيق من أهمهما وأوسعها انتشاراً، «فيسبوك» و«إنستغرام» وتطبيق «واتساب»، وتصدر ذلك الخبر كل وسائل الإعلام التقليدية من قنواتٍ فضائية ومواقع إلكترونية وبات حديث العالم أجمع.
هل هذا أمرٌ طبيعيٌ؟ أن تحظى هذه المخترعات الحديثة بكل هذا الاهتمام؟ الجواب ببساطة، نعم، فقد أصبحت هذه المواقع والتطبيقات جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس، فمستقلٌ ومستكثرٌ، وتزامن ذلك التعطل مع حديثٍ جديدٍ وصادمٍ لفرانسيس هاوغن، التي كانت تعمل مديرة للمحتوى في «فيسبوك»، الموقع الأشهر والأوسع انتشاراً، تحدثت فيه عن سياساتٍ مخجلة وبالغة الضرر يعتمدها الموقع كسياسة ثابتة له.
لم تلبث كرة الثلج أن زادت فتدخل البيت الأبيض الأميركي، كما تم استدعاء هاوغن للشهادة أمام لجنة في الكونغرس الأميركي، وضجت الشركات الكبرى والبنوك والمستثمرون والدول حول العالم خوفاً من الآثار التي تسبب فيها تعطل تلك المواقع وانقطاع خدماتها، بعدما سعت تلك المواقع لسنواتٍ طويلة لإقناع الناس أنها وحدها المستقبل وباقي المخترعات البشرية السابقة غير ذات قيمة ولا أهمية.
حسب «بي بي سي»، فقد قالت هاوغن صراحة: «تعرف قيادة الشركة كيفية جعل (فيسبوك) و(إنستغرام) أكثر أماناً، ومع هذا فهي لن تقوم بالتغييرات المهمة، لأنها وضعت الأرباح الفلكية كأولوية تسبق الاهتمام بالناس».
ليس ما جرى - رغم أهميته - جديداً، بل هو امتدادٌ لجدلٍ سابقٍ حول مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها و«السوشلة» بكل تفرعاتها، ولكن العطل المفاجئ لساعاتٍ أعاد إثارة الجدل السابق، وهي إثارة مستحقة، والجدل حول «السوشلة» له أبعادٌ متعددة منها الابتكار والإبداع، ومنها الجدل القانوني والسياسي والجدل الفلسفي والأخلاقي، وكلها جديرة بالطرح والنقاش والتفكير.
أما الجدة والابتكار والإبداع في هذه المواقع فهي تمثل نجاحاً واقعياً كان سبباً في حضورها القوي والمؤثر في حياة ملياراتٍ من البشر، وقوتها في عدد المستخدمين، ولولا هذا ما أثير شيء من الجدل حولها، وأما أصناف الجدل الأخرى فهي ما زالت تستحق مزيداً من التفكير والتحليل.
علق البيت الأبيض أثناء الأزمة بعباراتٍ جديرة بالتأمل، فقال: «مواقع التواصل أثبتت أن لديها قوة لا تستطيع السيطرة عليها»، وهو تعبيرٌ دقيق، فالقوة الخارجة عن السيطرة تعني الفوضى والخراب، وهذا واقعٌ لا يمكن إنكاره عن أدوار مواقع التواصل الاجتماعي، وأضاف: «إن مواقع التواصل بحاجة لإصلاحات، وللسيطرة عليها بشكل أقوى من القوانين الداخلية»، وقد رد مارك زوكيربرغ على مثل هذا الكلام بشكلٍ عامٍ في تعليق لاحقٍ.
هذا الكلام من البيت الأبيض مهمٌ لأنه صادرٌ عن «إدارة ديمقراطية» لطالما تحالفت مع شركات ومواقع وتطبيقات «السوشيال ميديا» لضرب إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي خاض معارك ضد تغول «السوشيال ميديا» وانفلاتها من أي قوانين ملزمة للدولة ومؤسساتها، وهو ما يواجهه الديمقراطيون حالياً مضطرين، لأن فكرة هذه المواقع تشكل نقيض فكرة الدولة، وهذا يحتاج لتفصيل ليس هذا مكانه.
سؤال مهمٌ هنا، أيهما أهم للإنسان وللمجتمع، الحرية أم الأمن؟ أن يمارس بعض الأفراد حرية منفلتة، حتى لو تسببوا في أذية الآخرين، أم حماية أمن الناس والمجتمعات حتى ولو تم تقييد بعض حريات الأفراد والجماعات؟ هذا بعد فلسفي بحاجة لاستحضار، وقد جرى قبل سنواتٍ جدلٌ قانوني داخل أميركا حين قام إرهابي بإطلاق النار على الناس وقتل بعضهم، وحين سعت الأجهزة الأمنية لفتح «الهاتف المحمول» لذلك الإرهابي لم تستطع، لأن الشركات الحديثة من مواقع التواصل ونحوها تؤمن تشفيراً قوياً يصعب اختراقه من الأجهزة الحكومية، ورفضت الشركة المعنية وهي شركة «أبل» حينها التعاون مع الدولة بحجة حماية خصوصية الأفراد، ولم تخضع إلا بعد أمرٍ قضائي ألزمها فتح ذلك الهاتف المحمول وتمكين الجهات الأمنية من تفتيشه لمعرفة تفاصيل الحادث الإرهابي، وتجنب أي عملياتٍ إرهابية مستقبلية، وقد أنتجت «السوشيال ميديا» ما يسمى التشفير التام لاحقاً حتى لا تستطيع الخضوع للقوانين حتى لو أرادت، وهذا جدلٌ فلسفي وقانوني لم ينته بعد.
وجدلٌ آخر سياسيٌ، توضحه المفارقة التالية، مواقع التواصل الاجتماعي تسمح للإرهابيين حول العالم بإنشاء حساباتٍ وصفحاتٍ لبث الدعايات ونشر الآيديولوجيات، وهي في الوقت نفسه تغلق حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وتمنعه من التواصل مع جمهوره، فأيهما أكثر خطراً على الناس، إنه جدلٌ لم ينته بعد؟
هذه المواقع والتطبيقات تستهدف الأجيال الجديدة، والأطفال هم الأكثر عدداً بطبيعة الحال، ومن هنا فاستهدافهم أولوية بالنسبة لكل «السوشيال ميديا»، ولكن هل تلتزم هذه المواقع بحمايتهم وتجنيبهم المخاطر، الواقع وشهادة المديرة السابقة في «فيسبوك» يقولان: لا، إن أفكارهم وأخلاقهم آخر ما تهتم به هذه المواقع والأولوية - فقط - لتحويلهم إلى مصدر ربحٍ سريعٍ لتلك المواقع، فمن المسؤول إذن؟ المسؤول هو الدولة، والدولة مغلولة اليد عن محاسبة تلك المواقع، وهذا جدل فلسفي وأخلاقي، لم يحسم بعد.
هناك شريحة من الشباب، إناثاً وذكوراً، استفادت من هذه المواقع، حيث منحتهم مكانة وتأثيراً، وشكلت مصادر دخلٍ وثروة بالنسبة لهم، وهذا أمرٌ جيدٌ لهذه الشريحة، والسؤال هنا لماذا تبقى مجموعاتٌ من هذه الشريحة منفلتة من أي قوانين تحكمها سوى «الدوافع الذاتية»؟ والجواب أن الجدل بأبعاده السابقة لم ينته بعد.
مواقع التواصل الاجتماعي رافدٌ كبيرٌ لما سماه كاتب هذه السطور عام 2016 بـ«التفاهة الممنهجة»، وبطبيعة الحال فهذه المواقع ليست مؤسسات تعليمية ولا جامعات عريقة ولا مراكز بحثية، وليس من أدوارها تعليم الناس وتثقيفهم، ولكن سعة الانتشار وقوة التأثير وغياب المساءلة جعلتها غولاً بالغ الخطورة والتأثير على المستوى الإنساني في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وغيرها.
أخيراً، فـ«ديكتاتورية السوشيال ميديا» هي ديكتاتورية قاسية ومسيطرة، وهي تعمل وتؤثر بلا حسيب ولا رقيب، وهي تؤثر بشكل سلبي واسعٍ في حياة البشر والأجيال الجديدة، بخاصة الأطفال، وتحطم نفسياتهم، وتقدم معلوماتٍ مضللة وتتبنى انحيازاتٍ ثقافية وسياسية وترتكب المتناقضات وتسبب الجرائم الإرهابية بشكل أو بآخر، ولكن الإجماع النادر بين «اليمين» و«اليسار» داخل الكونغرس الأميركي قد يكون بداية صحيحة لتنظيم عمل هذه المواقع والتطبيقات.
8:32 دقيقه
TT
ديكتاتورية «السوشيال ميديا»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة