شكَّل اغتيال العالم الإيراني النووي محسن فخري زاده ضربة قوية لإيران ونظامها الأمني، وكشف مدى الاختراق الأجنبي للداخل الإيراني؛ سواء من قبل معارضة إيرانية تتحرك في الخارج ولها امتدادات محلية في الداخل، أو من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وعملائهما المحترفين، وذلك رغم كل القيود والإجراءات المُحكمة المطبقة في عموم البلاد.
والسؤال الذي يجتهد كثير من المحللين في الإجابة عنه، يمكن حصره في: هل سترد إيران على حادثة اغتيال مهندس برنامجها النووي والصاروخي، وأحد أبرز علمائها في هذا المجال؟ وإذا قررت الرد فكيف سيكون ومتى؟ الأسئلة مشروعة نظرياً وسياسياً، فالاغتيال تم على الأراضي الإيرانية وفق ترتيبات تبدو معقدة للغاية، كشفت مدى هشاشة المنظومة الأمنية الإيرانية الخاصة بالشخصيات المهمة، سواء سياسياً أو عسكرياً أو علمياً.
ولعل السؤال الأبرز قبل التفكير في احتمالات ونوعية الرد الإيراني يخص مَن هي الجهة المنفذة، ومدى إمكانية تحديدها بدقة وإثبات ذلك علناً، ثم إلى أي مدى يمكن لإيران أن تقوم بفعل انتقامي كالرعد، حسب وصف مسؤولين إيرانيين ضد هذه الجهة أو تلك؟
الاتهامات الإيرانية الرسمية لإسرائيل وللولايات المتحدة باعتبارهما مسؤولتين عن حادثة الاغتيال، تتطلب قرائن وأدلة حاسمة، وتلك بدورها مشكلة كبرى، ربما يتكشف بعض منها في حال تم اكتشاف المجموعة التي نفذت الاغتيال، أو اعُتقل بعض منها، ومعها ما يثبت الصلة المباشرة لإسرائيل أو للولايات المتحدة، أو كلتيهما معاً، وهو أمر يصعب تخيله، فمثل هذه العمليات الاستخبارية الاحترافية غالباً لا تترك مجالاً لفضح أسرارها وكشف من وراءها بسهولة. وحتى مع إعلان السلطات الإيرانية عن بعض تلك الأدلة، ومهما كانت قوتها من وجهة النظر الإيرانية، فسيظل التشكيك القانوني في سلامة تلك الأدلة قائماً، نظراً لسمعة السلطات الإيرانية في هذا الصدد.
تسارع الاتهام الإيراني بمسؤولية إسرائيل والولايات المتحدة، له هدف رئيسي يتعلق بالرأي العام الإيراني، من أجل تهدئة مستوى الغضب، لا سيما الذي يعبر عنه المحافظون والرافضون أساساً أي احتمال بفتح ولو نافذة صغيرة للحوار المحتمل مع الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، وهو الاحتمال الذي يسعى إلى تحقيقه الرئيس روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف، بافتراض أنه في حال حدوثه سيؤدي إلى انفراجة في الوضع الإيراني، بداية من عدم التعرض لعقوبات أميركية جديدة، ومروراً بالتخفف من بعضها الذي صدر في عهد الرئيس المُغادر ترمب، ونهاية إلى إلغائها لاحقاً، وفتح صفحة جديدة في علاقات طهران وواشنطن، ومن ثم علاقات إيران الدولية عامة.
يلاحظ هنا أن وضع حادثة الاغتيال في سياق الصراع مع هاتين الدولتين العدوتين؛ إسرائيل والولايات المتحدة، هو أمر طبيعي؛ لا سيما أن إسرائيل على لسان رئيس الوزراء نتنياهو تُعلن صراحة إصرارها على إنهاء القدرات النووية الإيرانية بكل السبل، ومنه التخلص من كبار العلماء الإيرانيين، كعامل يؤدي إلى إرباك جسيم أو شلل تام في منظومة إيران النووية سلمياً أو عسكرياً. كذلك فإن إلحاق الاتهام بوعد غامض بالرد المناسب ولكن في الوقت المناسب، وفقاً لتصريحات الرئيس حسن روحاني، هو موقف إيراني متكرر وليس جديداً. وتعبير «الوقت المناسب» يشير ضمناً إلى أن قرار إيران بالرد لن يكون عاجلاً أو في مدى زمني قريب، وغالباً سيكون مؤجلاً إلى مدى زمني أبعد كثيراً، ولن يكون بواسطة أداة إيرانية رسمية، كـ«الحرس الثوري» أو الجيش الإيراني؛ بل الأرجح أن يكون عبر إحدى أذرع إيران في المنطقة، حتى يمكن التنصل من المسؤولية المباشرة للانتقام إن حدث.
والأرجح أيضاً أن يتم استنساخ عملية الرد على حادثة اغتيال قاسم سليماني بواسطة الاستخبارات الأميركية التي جرت في يناير (كانون الثاني) الماضي، من خلال تكثيف هجمات منظمات «الحشد الشعبي» العراقية الموالية لإيران على القوات الأميركية المنتشرة في عدد من القواعد على الأراضي العراقية، وهي الهجمات التي فُسرت وما زالت باعتبارها ذات هدفين مباشرين؛ أولهما الانتقام من اغتيال قاسم سليماني، والثاني التسريع بعملية خروج القوات الأميركية من العراق، وبالتالي يتحول الأخير إلى ساحة نفوذ إيراني بلا قيود أو عراقيل.
والمتصور نظرياً أن تقوم إحدى الأذرع الإيرانية بعمليات ذات طابع انتقامي ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية في عموم الإقليم، والمتصور نظرياً أيضاً أن يكون الأمر ذا طابع رمزي لا تترتب عليه إصابة جنود أميركيين، حتى لا يثير رد فعل أميركياً قوياً، عبر عنه الرئيس ترمب بأن إصابة أي أميركي منسوبة لفعل إيراني ستُواجه برد فعل قاسٍ وشامل، مع الأخذ في الاعتبار أن الرئيس ترمب راغب في توجيه ضربة قوية لإيران قبل مغادرته البيت الأبيض في منتصف يناير المقبل. وأي خطأ إيراني من وجهة النظر الأميركية سيكون بمثابة مبرر لفعل انتقامي كبير، غير قابل للانتقاد أميركياً أو دولياً.
والواضح من تصريحات وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، ومسؤولين آخرين، حول وعي طهران بمؤامرة تسعى لجر البلاد للوقوع في فخ قبل انتهاء رئاسة ترمب، هو الذي يجعل القرار الإيراني بالرد مؤجلاً لأمد بعيد، وغالباً لن يحدث، تماماً مثل وعود الرد على حوادث اغتيال العلماء الإيرانيين عامي 2010 و2012، وهي الحوادث التي يعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل نفذتها.
ووفقاً لتصريحات ظريف أيضاً، والتي تم ربطها بشيء من الحنكة السياسية، والموجهة أيضاً للرأي العام في الداخل، من أجل تهدئته واستيعاب حالة الغضب الشعبية، يتأكد أن الأولوية لحكومة حسن روحاني هي اللحظة التي تنتهي فيها رئاسة ترمب، وتبدأ فيها إدارة بايدن التي تعد بسياسات مختلفة تماماً عن إرث ترمب في السنوات الأربع الماضية، ومن ثم لا ترغب طهران في إفساد العلاقة المنتظرة، وما فيها من انفراج نسبي محتمل مع إدارة بايدن.
نمط تفكير إيران على هذا النحو يجعلها أكثر حذراً في القيام بأي عمل مباشر ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل؛ لا سيما في ضوء بعض التطورات العسكرية، من قبيل تجميع عدد من الطائرات الأميركية العملاقة «بي 52» في المنطقة، والتي تعد بمثابة مخزن أسلحة كبير طائر في عنان السماء، ودخول حاملة الطائرات الأميركية إلى عُمق مياه الخليج. ورغم نفي البحرية الأميركية وجود أي علاقة بتحرك حاملة الطائرات بأي تهديدات محتملة، يبقى هذا التحرك دافعاً لإيران للحذر والتبصر في أي رد فعل.
تدرك إيران بجناحيها المحافظ المتشدد والمعتدل الأقرب إلى المرونة السياسية حركياً، أن القيام بأي مغامرة عسكرية حتى ولو كانت محدودة لن يحقق لها الكثير، ولن يرفع العقوبات الأميركية، ولن يصلح من أوضاعها الاقتصادية. والمؤكد أنه سيفسد علاقاتها المنتظرة مع ساكن البيت الأبيض الجديد، وسيفتح عليها أبواب جحيم هي في غنى عنها تماماً.
8:2 دقيقه
TT
اغتيال محسن زاده... هل ترد إيران؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة