جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

وجهاً لوجه

هذا العام لا يمكن أن يُحتسب من عمرنا. أنا شخصياً سأحتفل بنفس عدد السنوات التي احتفلت بها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. والسبب هو أنني أشعر بأن فيروس «كورونا» وضعنا في الثلاجة منذ بداية العام، ودرجة الحرارة المتدنية تحفظ المكون جيداً. لكن المشكلة هي أن الواحد منا ليس «مكوناً» إنما «كائن»، ومكاننا ليس في الثلاجة، وحياتنا لا تقتصر على رؤية جدران المنزل فقط، والعمل من مكاتب المنازل دائماً.
يومياتي منذ بداية الحجر، دوّنتها على شبكات التواصل الاجتماعي، فتحولت إلى طاهية بارعة، بعد أن كنت - من قبلُ - جديرة بـ«حرق الماء»، وأردت أن تكون تجربة العمل من المنزل وتوفير أكثر من ساعة في المواصلات (نمضي نحو 221 ساعة في الطريق ما بين المنزل والمكتب سنوياً) تجربة مجدية، فنظمت وقتي وخلقت روتيناً يبدأ بالعمل والكتابة، ويمرّ بالمطبخ وينتهي بالمشي في الغابات القريبة من مكان سكني والتقاط صورة يومياً لشجرة تلفت انتباهي بشكلها المميز، لدرجة أن متابعي كانوا ينتظرون رؤية «شجرة اليوم». ولكن الحجر طال، والعمل من المنزل أصبح النمط الجديد في حياتنا، وهذا ما جعلني أتساءل فيما إذا كنا كائنات «منزلية» أم «مكتبية».
لفت سمعي اليوم حوار ما بين سيدتين، الأولى ربة عمل والأخرى أصغر سناً وتعمل في إحدى الشركات. ربة العمل كانت تؤيد عودة الموظفين إلى المكاتب في أسرع وقت ممكن؛ لأن ذلك يساعد في نهضة الاقتصاد، ويحمي الموظف نفسه ويضمن بقاء وظيفته؛ في حين أن الموظفة كان لها رأي آخر، فقالت إنها ترى أن العمل من المنزل يفي بالغرض، بل إن الموظف أصبح أكثر إنتاجية.
تابعت الجدل لنهايته، وأردت أن أشارككم رأيي في الموضوع الذي يخصني؛ لأني أعمل مثل ملايين البشر من المنزل حالياً، وفي ظروف غير عادية، وإذا أردت أن أكون صريحة فلا بد من القول: إن العمل الجيد يمكن أن يُنجزَ من أي مكان، ولا يهم إذا كنت تقوم بعقد الصفقات وأنت في لباس النوم أو في البدلة الرسمية، النتيجة هي الأهم. ولكن هذا المنطق يتعلق بشكل خاص بالإنتاجية وتسيير أمور العمل، ولكن!
إذا ما فكرنا بالناحية النفسية والصحة العقلية وتأثرها بالوضع، لوجدنا أن استمرارية الوضع على هذا الشكل قد يكون له عواقبه؛ والسبب هو أن التكيف والتأقلم السريع مع الظروف المحيطة بنا، لا تنطبق على الجميع بالزخم نفسه؛ لأن كل موظف لديه شخصيته الخاصة. هناك من يستطيع التأقلم بشكل أسهل، وهناك من لا يهمه إذا كان محاطاً بآخرين، لأنه انطوائي بطبعه ولن يتأثر بآلية العمل.
من يعشق وظيفته لا يمكن أن نقول عنه إنه يعمل لأنه يتوق للذهاب إلى المكتب للعمل ورؤية وجوه ألفها؛ يتكلم معهم، ومن ثم يخلق الحديث فكرة، وبالتالي تتحول الفكرة إلى عمل أو إنجاز...
علمتني هذه الفترة أن الإنسان لا يعرف ما يريده في الحياة في كثير من الأحيان، ومن الصعب إرضاؤه. كنا نتأفف من السفر المتعلق بالعمل ومن التواجد في المكتب لأكثر من سبع ساعات، واليوم نتحسر على تلك الأيام ونتمنى أن تعود قريباً لأننا بالفعل كائنات مكتبية والإنسان حيوان اجتماعي بحسب تكوينه، وعبارة «وجهاً لوجه» لم تأتِ من فراغ.
البعض يرى أن هذا النمط يتوافق مع العصر الرقمي ولكن عندما تسمع أن بعض الشركات الكبرى أعادت موظفيها إلى المكاتب، تفهم أنه لا يصح إلا الصحيح والعمل أجمل «وجها لوجه».