نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

إبطاء انتشار «كورونا»

شاع انتشار فيروس كورونا المسمى علمياً «كوفيد 19» خارج منشئه في مدينة ووهان الصينية، ولقد وصل إلى شواطئ الولايات المتحدة حديثاً. ولا أدعي اختصاصي في علم الأوبئة، فأنا بروفسور في القانون، ولذلك تحولت أفكاري على الفور صوب شكل الصياغة القانونية للاستجابة الجماعية الأميركية للوباء واسع النطاق - وما الذي تعنيه سلطة الحكومة الأميركية بالنسبة إلى الحقوق الفردية وفق الدستور الأميركي.
وإنه تساؤل ربما يتحول عما قريب إلى أكثر التساؤلات إلحاحاً - ولقد جمعني حديث قريب مع البروفسور مارك ليبتشيتش، أستاذ علم الأوبئة اللامع ومدير مركز ديناميات الأمراض المعدية في كلية الصحة العامة التابعة لجامعة هارفارد. ولقد أخبرني البروفسور ليبتشيتش، في هدوء شديد، أنه استناداً إلى حالات انتشار الأوبئة السابقة مع المعلومات المتوافرة حالياً، فإن نسبة من 40 إلى 70 في المائة من البالغين على مستوى العالم من المحتمل إصابتهم بالفيروس في غياب تدابير الوقاية الصارمة. وربما تلحق الوفاة بنسبة 1 أو 2 في المائة من مصابي النسبة السابقة.
وهذه الأرقام مفزعة للغاية. ومن شأن الوباء من هذا الحجم المخيف، مع الجهود المبذولة راهناً في احتوائه، أن يؤدي إلى حالة عنيفة للغاية من المناقشات والجدال بشأن الحريات المدنية، فضلاً عن الإجراءات القانونية ذات الصلة. ولقد رُفعت بالفعل دعوى قضائية بهذا الشأن، وربما يتلوها مزيد من الدعاوى الأخرى (وبعد كل شيء، هذه هي طريقة التفكير الأميركية).
أما في الصين، التي لا تحتمل فيها الحكومة أعباء التقاليد الدستورية المعنية بحماية الحريات المدنية ولا يوجد ما يُعرف بالقضاء المستقل الذي يتولى الإشراف الكامل على مجريات السلطة التنفيذية، فيبدو أن الحكومة في بكين تملك المقدرة على إصدار الأوامر للمواطنين بالتزام منازلهم وعدم مغادرتها مع حملهم على الانصياع من دون مناقشة. ولكن هل من المتوقع أن ينفذ سكان الولايات المتحدة الأوامر نفسها؟
علمنا بالفعل عن قضية واحدة تتعلق بفيروس كورونا في ولاية كاليفورنيا. وذلك عندما قررت الحكومة الفيدرالية، بالتعاون مع مسؤولي الصحة العامة في الولاية المذكورة، فرض تدابير الحجر الصحي على المواطنين الأميركيين الذي أصيبوا فعلاً بفيروس كورونا في خارج البلاد، وحجزهم في منشأة مهجورة للصحة العقلية في مدينة كوستا ميسا في الولاية. ولقد نقل المسؤولون المحليون الأمر إلى المحكمة الفيدرالية في محاولة لوقف القرار الصادر عن حكومة الولاية.
لا يوفر الإطار القانوني ذو الصلة الأسس القوية لمجلس المدينة كي يحول دون تنفيذ الخطة الفيدرالية. ومن المبادئ العامة لقوانين الحكم المحلي أن المدن عبارة عن كيانات إدارية تابعة لحكومة الولاية وتخضع خضوعاً كاملاً لها. وما دام أن حكومة ولاية كاليفورنيا قد قررت المشاركة في الخطة الموضوعة إثر الاتفاق مع الحكومة الفيدرالية بهذا الصدد، فمن المؤكد أن مجلس المدينة سوف يخسر القضية المرفوعة أمام القضاء. وينسحب الأمر نفسه لدى أي مدينة أو بلدة أخرى تحاول تحدي مسؤولي الولاية أو المسؤولين الفيدراليين.
ويرجع ذلك جزئياً إلى تمتع الرئيس بصلاحيات واضحة لإعلان حالة الطوارئ الصحية على المستوى الوطني مع البدء في إصدار الأوامر بتشكيل مراكز الحجر الصحي في كل أنحاء البلاد. وتنبع هذه الصلاحيات الرئاسية بالأساس من الكونغرس، وتُخول إلى الرئيس بموجب قانون روبرت ت. ستافورد للإغاثة الوطنية في حالات الكوارث والمساعدة في حالات الطوارئ. وكما يشير الاسم، فإنه القانون نفسه الذي يتيح للرئيس إعلان حالات الطوارئ الوطنية للإغاثة من الكوارث. ولقد استعان الرئيس دونالد ترمب بهذه الصلاحيات في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما أعلن حالة الطوارئ الوطني للصحة العامة وأمر بإنشاء مركز الحجر الصحي للمواطنين الأميركيين العائدين من المناطق الصينية التي شهدت انتشاراً فعلياً لفيروس كورونا. كما يمكن التصريح بفرض الحجر الصحي من قبل الجراح العام، الذي ينال تلك الصلاحية على وجه التحديد بموجب القانون الفيدرالي الأميركي.
ولكن هذا لا يعني ضرورة طاعة الولايات للأوامر. فلقد أشار مايكل دورف أستاذ القانون في مراجعة دستورية للمقالة التي كتبها في عام 2014. لا يمكن للحكومة الفيدرالية إجبار مسؤولي الولايات رسمياً على تنفيذ التوجيهات إذا كانوا لا يرغبون في التعاون معها. فإذا ارتأت إحدى الولايات رفض التعاون مع الحكومة الفيدرالية، فلا بد أن تتقدم بذريعة قانونية أكثر إقناعاً من التي طرحها مسؤولو مدينة كوستا ميسا أمام القضاء.
ومع ذلك، في العالم الحقيقي الذي ينتشر فيه الوباء فعلياً، يبدو من المرجح للغاية تعاون حكومات الولايات الأميركية مع الحكومة الفيدرالية مع وضع مسؤولي الصحة العامة وقوات الشرطة تحت إمرة التوجيهات الفيدرالية - وهو الأمر الذي يُسمح لهم بتأديته.
أما بالنسبة لأي مواطن من المواطنين يتخير الذهاب إلى القضاء للطعن في أوامر الحجر الصحي، فمن المؤكد أنه سوف يخسر القضية لا محالة. إذ يتمثل المقام الأعلى للسلطة الحكومية في الاستجابة المباشرة للتهديدات العاجلة ذات الصلة بحياة المواطنين.
وبحكم التعريف، يحد الحجر الصحي من حرية انتقال الأشخاص الذين لم يرتكبوا أي مخالفات، ولكن خدمة للصالح العام المتمثل في تجنيب الناس مزيداً من الإصابات. ويفيد مبدأ المحكمة العليا بأنه يمكن - بصفة أساسية - تعليق كل الحريات الفردية إذا كانت هناك مصلحة قوية لدى الحكومة من القيام بذلك، وإذا كانت التدابير الحكومية المرعية موضوعة لتحقيق هذه الغاية في أضيق الحدود الممكنة. أما إبطاء انتشار الوباء فهو مثال نموذجي على المصلحة الملحة لدى الحكومة، وبالتالي يعتبر الحجر الصحي أضيق الوسائل الممكنة والمتاحة للقيام بذلك في خضم تفشي الوباء على نطاقه المعروف.
وتتفاقم الأوضاع مما هي عليه عندما تقرر الحكومة توجيه أغلب أو كل السكان من منطقة معينة إلى الاحتشاد في مكان معين - بما في ذلك الأفراد غير المصابين بالعدوى. ويمكن للمواطنين، في هذه الحالة، انتهاك الأمر الحكومي من دون التعرض للمساءلة القانونية. ولكن هذا لا يعني بقاء الناس في أماكنهم كما هم، ليس في كل حالة من الحالات على أقل تقدير.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»