صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

الأردن... لا رجعة عن «فك الارتباط» وسيبقى مع دولة فلسطينية

غير معروف - على وجه اليقين - من هو وراء نبش الماضي البعيد، وعلى هذا النحو، وما هي غايته من إشاعة أن الأردن ينوي التخلي عن قرار فك الارتباط بينه وبين الضفة الغربية، إدارياً وقانونياً، الذي كان العاهل الأردني الراحل الملك حسين قد اتخذه في عام 1988، وهذا كان قد جاء في حقيقة الأمر رداً على إعلان «أبو عمار» قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية، وبالطبع في قطاع غزة، وذلك في حين أن المعروف أن هذا الجزء من فلسطين الذي لم يكن قد وصل إليه الاحتلال الإسرائيلي بعد، قد أصبح جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، بقرار فلسطيني من مؤتمر أريحا، الذي كان قد عقده عدد من «الوجهاء» الفلسطينيين في عام 1949.
وبالطبع، فإن ما يجدر أخذه بعين الاعتبار أن الدول العربية كلها لم تعترف بهذه الوحدة وبهذا «الارتباط» بين الضفة الغربية والضفة الشرقية، مع أن الدافع إليه كان مخاوف الزعماء والقادة الفلسطينيين والشعب الفلسطيني من أن تُلحِقَ إسرائيل هذا الجزء من فلسطين بما كانت احتلته في عام 1948، والمعروف أن هذا قد تم بعد ثمانية عشر عاماً، أي في يونيو (حزيران) عام 1967.
ولعل ما من الضروري الإشارة إليه في هذا المجال، هو أنه قد تم فك ارتباط سوريا بمصر بعد اتحاد في إطار «الجمهورية العربية المتحدة»، وأيضاً فصل اليمن الجنوبي عن اليمن الشمالي، بانقلاب قام به علي سالم البيض.
في كل الأحوال، البعض يرى وبعد اثنين وثلاثين عاماً، أن «فك الارتباط» بين الأردن والضفة الغربية في عام 1988 كان مخالفاً لـ«الدستور» الأردني، وأنه في حقيقة الأمر يعتبر تنازلاً عن أرض أردنية؛ لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هنا وفي هذا المجال، هو أن الدول العربية لم تعترف بهذه الوحدة وبهذا «الارتباط»، وقد استجدت تطورات فلسطينية كثيرة، أهمهما اعتراف العرب بـ«منظمة التحرير» ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، أولاً في قمة الجزائر العربية في عام 1973، وثانياً في قمة الرباط الشهيرة في عام 1974.
ثم فوق هذا كله، فإن «منظمة التحرير» قد حازت في هذا العام نفسه، 1974، عضوية الأمم المتحدة (كمراقب) وعلى عضوية الجامعة العربية في عام 1976. وفوق هذا كله فقد كانت هناك كل تلك التطورات اللاحقة بعد «اتفاقات أوسلو» المعروفة، التي كان قد وقعها الفلسطينيون والإسرائيليون في واشنطن، وترتب عليها عودة «منظمة التحرير» والقيادات الفلسطينية إلى «الداخل الفلسطيني»، وإنشاء سلطة حكومية ذاتية انتقالية باتت تعرف بـ«السلطة الوطنية»، وأصبح هناك إصرار فلسطيني على أنها دولة فلسطينية يعترف بها العالم بمعظمه، ولها سفارات في معظم كل دول الكرة الأرضية.
ويقيناً، إنه لم تكن هناك أي نيات لدى الأردنيين، وعلى أعلى المستويات، للتراجع عن «فك الارتباط» بالضفة الغربية. وأغلب الظن أن وراء هذه «الإشاعة التشويشية» إما بعض الذين دأبوا على «فبركة» الأكاذيب و«التلفيقات»، للإساءة إلى الأردن والقيادة الأردنية، وإما بعض «الأشقاء» الفلسطينيين المناوئين للسلطة الوطنية وللرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن). وحقيقة هناك كثيرون من هؤلاء الذين يرفضون كل ما هو «قائم» في الضفة الغربية.
والمفترض أنه معروف في هذا المجال أن الواقع على الأرض قد أنهى أي دور للأردن في الضفة الغربية، والمعروف أن الإسرائيليين بقوا يراهنون على انهيار عملية السلام واحتواء الأردن للفلسطينيين، كما حصل في عام 1949 في مؤتمر أريحا المعروف والشهير، حيث أصبحت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية.
والمؤكد هنا أن الأردن قد «تكيَّف» مع «فك الارتباط» هذا بعد كل هذه السنوات الطويلة، منذ عام 1988 وحتى الآن، وأنه بعد اتفاقيات «أوسلو» الفلسطينية – الإسرائيلية المعروفة، وما ترتب عليها من واقع ووقائع في الضفة الغربية تحديداً، لم يعد يفكر وعلى الإطلاق في التخلي عن فك الارتباط والعودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل اثنين وثلاثين عاماً. فهناك الآن سلطة وطنية، والبعض يصفها بأنها «دولة» يجب الحفاظ عليها، ويجب تطويرها حتى بعد «صفقة القرن» هذه التي «رماها» دونالد ترمب في وجه الفلسطينيين.
ثم إن من المفترض أنه معروف أن هذه «الصفقة» التي بادرت القيادة الفلسطينية إلى رفضها والتنديد بها، قد جعلت الأردن يزداد تمسكاً بقرار «فك الارتباط» الذي كان قد لجأ إليه قبل اثنين وثلاثين عاماً. فالشعب الفلسطيني، من منه في الضفة الغربية ومن منه في قطاع غزة، لم يعد يقبل بأي «وصاية» عليه، لا الوصاية الأردنية ولا أي وصاية أخرى، وهنا فإن المفترض أن كل من استمعوا إلى ما قاله الرئيس محمود عباس (أبو مازن) رداً على هذه الخطوة الأميركية – الإسرائيلية الأخيرة قد لمسوا هذه الحقيقة، وقد أدركوا أنه لم يعد ممكناً أن تعود الأمور على هذا الصعيد وفي هذا المجال إلى ما كانت عليه بين الفلسطينيين والأردن قبل عام 1988.
وأيضاً في هذا المجال، فإن الأردن حتى إن هو رغب في استعادة «الارتباط» بينه وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى ما كان عليه قبل عام 1988، فإنه يعرف أن خطوة كهذه ستؤدي إلى إساءة علاقاته المصابة بالاهتزاز أصلاً مع عديد من الدول العربية، وخصوصاً أن الوضع العربي أصبح يعيش انهيارات غير مسبوقة، وأن إيران أصبح لها نفوذ مؤكد وواضح في الساحة الفلسطينية، وأن الدليل على هذا هو ذلك «الاستعراض» الذي كان قام به رئيس «حماس» إسماعيل هنية في طهران، ووصفه لرئيس «فيلق القدس» السابق، قاسم سليماني، بأنه: «شهيد القدس».
وبالطبع، وحتى بعد أن ألقى دونالد ترمب بـ«صفقة القرن» كمتفجرة كبيرة في الساحة الفلسطينية، فإن الأردن سيبقى يحتفظ بدوره الفلسطيني الداعم للسلطة الوطنية الفلسطينية، ولـ«منظمة التحرير»، وللرئيس محمود عباس (أبو مازن)، وسيتمسك أكثر وأكثر بـ«وصايته» على الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة في القدس الشريف، التي تحظى بدعم عربي وإسلامي وبدعم دولي، ثم الأهم من هذا كله بدعم الشعب الأردني ودعم الشعب الفلسطيني.
إنه لا بد من إيضاح أن الأردن يعرف أن إسرائيل، ومعها هذه الإدارة الأميركية إن هي بقيت في الحكم لدورة ثانية، ستحاولان دفعه «مرغماً» إلى التخلي عن «فك الارتباط»، والعودة إلى تحمل عبء القضية الفلسطينية «وحيداً»؛ لكن ما هو مؤكد وواضح أن هذا لن يكون على الإطلاق، وأن غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وبالطبع وفي قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة «حماس» الإخوانية، سيرفضونه، وأنهم سيقاومونه، وأنهم سيزدادون تمسكاً بحق تقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم المستقلة فوق ثرى وطنهم الذي لا وطن لهم غيره، وهذه مسألة الكل يعرف أن المملكة الأردنية الهاشمية شعباً وقيادة تقف معها وتؤيدها وتدعمها، بكل إمكاناتها السياسية وغير السياسية.
وعليه، وفي النهاية، فإن الأردن لم يعد يفكر في العودة إلى وضع ما قبل عام 1988 بالنسبة للضفة الغربية، التي كانت قبل احتلال يونيو عام 1967 جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية. فالشعب الفلسطيني قد اختار خياره الوطني بإطلاق ثورته عام 1965، وأن «منظمة التحرير» هي ممثله الشرعي والوحيد، وهذه مسألة يحترمها الأردنيون ويلتزمون بها، ولهذا فإنهم لا يفكرون إطلاقاً في العودة إلى ما قبل فك الارتباط.