أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

الحسابات المضمرة للاتفاق الروسي ـ التركي حول إدلب!

بدا كحدث مفاجئ إعلان الرئيسين الروسي والتركي خطة طريق لإقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب بعمق 15 إلى 20 كلم على امتداد خط التماس بين المعارضة المسلحة وقوات النظام، وتتضمن سحب كل الأسلحة الثقيلة من المنطقة، وإخراج جميع مقاتلي المعارضة المتشددين وخاصة «جبهة النصرة» منها، وتسيير دوريات مشتركة روسية وتركية على حدودها.
وبدا أن حماس موسكو المعلن لشن حرب مفتوحة على مدينة إدلب وأريافها، محفوفاً بقصف متواتر وبحشود معززة لقوات النظام، ومنتهياً بالاتفاق مع أنقرة، بدا كأنه حماس مفتعل غرضه تحقيق بعض الأهداف المضمرة، تبدأ بالضغط على الحكومة التركية، لتطويع سياستها أكثر ولجم محاولاتها اللعب بورقة التنظيمات الإسلاموية المسلحة، بما في ذلك ابتزازها للحصول على معلومات تمتلكها استخباراتها لأسماء أخطر الكوادر الجهادية وأماكن وجودهم للنيل منهم، وفي الطريق وضع حد للهجمات التي تتعرض لها قاعدة حميميم بالطائرات المسيّرة التي يطلقها تنظيم «النصرة»، مروراً بتوظيف ذلك الحماس لإثارة مخاوف الدول الأوروبية وخاصة الأكثر تضرراً من احتمال اندفاع موجات نزوح جديدة، لتشجيعها على التنازل عن أولوية التغير السياسي كشرط لمشاركتها في إعادة الإعمار.
ولعل ما دفع قيادة الكرملين بعيداً عن خيار الحرب الشاملة هو خشيتها من أن تنزلق نحو الغرق في مستنقع كارثة إنسانية لا حدود لها، ربطاً بالكثافة السكانية المرعبة لمحافظة إدلب، والتي يقطنها ثلاثة ملايين شخص نزحت غالبيتهم من مختلف المدن السورية، فكيف الحال وبينهم عشرات آلاف المقاتلين الذين ليس لديهم خيار آخر أو ملجأ يلتجئون إليه، ما يجعل الحسم العسكري أمراً مكلفاً للغاية على المستوى البشري والعمراني، ويحتاج إلى زمن قد يطول كثيراً.
وفي المقابل تحرص تركيا على ألا تفقد نفوذها في سوريا، وتتحسب من خسارة قدرتها على التحكم بموقع قريب من حدودها كمدينة إدلب، مثلما لا تريد للفصائل المحسوبة عليها والتي تستخدمها ضد الأكراد، أن تصطلي بنيران القصف الروسي، والأهم أنها لا تحبذ موجات نزوح جديدة تثقل عليها اقتصادياً واجتماعياً، ولعلها في حساباتها المضمرة تتمنى أن يحظى التوافق على منطقة منزوعة السلاح بأوسع دعم أممي ينعكس بتخفيف حدة الضغوط الأميركية عليها وتوسيع قنوات تواصلها مع الدول الأوروبية، يحدوها رهان على تطويع موقف «جبهة النصرة» وإجبارها على حل نفسها والالتحاق بما تعتبره فصائل معتدلة، ما يفسر رعايتها لتشكيل جديد سمته «الجبهة الوطنية للتحرير» يضم أهم الفصائل العسكرية الموالية لها في إدلب، مثل «صقور الشام» و«جيش الأحرار» و«جبهة تحرير سوريا» وغيرها، من دون أن نغفل استمرارها في استمالة معظم شباب المدينة للانضمام إلى «درع الفرات» المعني بكسر شوكة الأكراد والحفاظ على النفوذ التركي في شمال غربي البلاد.
أمر بديهي أن تتجنب حكومة أنقرة الانزلاق إلى حرب واسعة ومكلفة دفاعاً عن إدلب، لكن ذلك لم يمنعها من إظهار استعدادها للدفاع عن نفوذها عبر تعزيز حضورها العسكري على خطوط وقف النار، مستقوية بالموقف الدولي الرافض للحرب الشاملة على إدلب، وبالحاجة المتبادلة بينها وبين موسكو للحفاظ على العلاقات وتقدير المصالح المشتركة، الأمر الذي سهل عليها عقد صفقة مع روسيا تمكن الطرفين من التعاون لضمان أمن المدينة وتصفية القوى الأكثر تطرفاً فيها، والجائزة، حماية حصتها من المستقبل السوري وتخميد الميل الغربي الداعم للأكراد وضمان استمرار وجودها في مدينة عفرين وما حولها.
صحيح أن للدول الغربية مصلحة حقيقية في ضرب الجماعات الجهادية واستئصالها من جذورها، وقد أعلنها جون كيري جهاراً: بأن إدلب ذاهبة إلى الإبادة ما دام فيها متطرفون، وما دام العالم قد توافق على تجميعهم هناك لتصفيتهم! وصحيح أنها متضررة مما آل إليه الصراع السوري وستبذل كل الجهود لمنع الانتصار التام والنهائي للنظام وحلفائه، ما يفسر الدعم الأوروبي لموقف أنقرة الذي يرفض التفريط في إدلب وأيضاً جهود واشنطن في تأليب حلفائها الأكراد ضد حكومة دمشق، وصحيح أن إحدى رغبات تلك الدول هي أن تغدو الحرب على إدلب بمثابة مستنقع تغرق فيه روسيا وإيران معاً، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة حاجة ملحة لديها بمنع حدوث موجات جديدة من اللاجئين إلى أراضيها، تخفيفاً لعبئهم الاقتصادي الذي بدأ يثقل كاهلها، وتفادياً لآثارهم السلبية على شروط حياة مواطنيها جراء ضعف اندماجهم في المجتمع، وإجهاضاً لمحاولات اليمين الشعبوي استثمار مثالبهم لـتأليب الرأي العام ضدهم وضد الحكومات القائمة، خاصة أنه نال أكثرية برلمانية في عدد من البلدان الأوروبية.
ومع أن إيران تدرك أن الاتفاق الروسي التركي يفقدها فرصة ثمينة لسحق أهم الجماعات السنية المسلحة والنيل من حاضنتهم الشعبية، لكن ما يعوضها هو توظيف الاتفاق لتسويغ استمرار الحاجة لدورها ضد الإرهاب الجهادي، ما يفضي لتخفيف حدة المطالبات بوضع حد لوجودها على الأرض السورية، ويمنحها بعض الوقت لتمويه تمركزاتها العسكرية تفادياً للضغوط الأميركية والغارات الإسرائيلية، بينما يبدو النظام السوري كأنه الخاسر الأكبر، ما دام قد عوّل على استثمار حرب إدلب، إنْ في تبجحه بإعادة سيطرته على كافة الأراضي السورية، وإنْ في تحصيل بعض الشرعية جراء تصديه لقوى إرهابية باتت مكروهة من العالم أجمع، وإنْ في الالتفاف على أزمته الاقتصادية والتدهور المريع للأوضاع المعيشية، من دون أن نغفل تخوفه من أن يؤدي طي ملف إدلب بهذه الطريقة، إلى فتح الباب على ملفات أخرى، كملف الانتقال السياسي وملف المحاسبة على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري.
وبين الأمل المتجسد بفرصة وقف الحرب الشاملة على إدلب وحماية أرواح المدنيين، وبين الألم المستند إلى احتمال اجتياح المدينة واتباع سياسة الأرض المحروقة التي يتوسلها النظام السوري وحلفاؤه في معاركهم، ليس ثمة ما يدعو للاطمئنان، ما دام ليس من قيمة اليوم لأرواح البشر وحقوقهم، وما دامت الحسابات الأنانية قابلة للتبدل في أي لحظة، وما دام السوريون قد تحولوا إلى مجرد أوراق للمساومات الرخيصة وأرقام باردة في عدّاد الضحايا والمنكوبين والمشردين!