نفتخر نحن العرب بعواطفنا الجياشة وروابطنا العائلية وأخلاقياتنا ومجتمعاتنا المحافظة وو... ولكن المشكلة الحقيقية هي في إقحام العاطفة في كل شيء حتى في المكان الخطأ، مما يجعلنا قمة معجونة بالعواطف والأحاسيس على طريقة الأفلام الهندية التي لا تخلو من الدموع والشهيق.
في لقاء مع صديقة تتبوأ منصبا مهما جدا في أحد أكبر المصارف الأميركية في لندن، كانت من بين المصرفيين القليلين الذين لم يتأثروا بالأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا عام 2008 لا بل إن الأزمة صبت في مصلحتها وجعلت الإقبال عليها أكبر فعرضت عليها وظيفة بمنصب أرفع في بنك أوروبي، وأغرب ما قالته عندما اتصلت لتهنئتها: «يا إلهي لا أعتقد بأني مهيأة للعمل مع بنك أوروبي يعتمد العاملون فيه على العاطفة»، استغربت ما قالته ولم أضطر لطرح سؤال إضافي لأنها تبرعت بالإجابة فأضافت: «في قاموسي المهني لا وجود للعاطفة في العمل لأني قد أضطر غدا إلى فصل أحد الموظفين لدي... ولن تنفع العاطفة».
عندما قالت لي سيمونا هذا الكلام ظننتها قاسية القلب خاصة أنها إنسانة منطقية تتعامل مع الأرقام والمال والأعمال، هدفها تحقيق الأرباح وجمع ثروة تقيها شر الفقر في حال خسرت وظيفتها، ولكن وبعد التمعن بما قالته وبعد مقارنته بمحيطي العربي وجدت أن نقطتها جيدة ولا يجوز مزج العواطف الفائضة في العمل والعلاقات المهنية.
المشكلة فينا وفي المتوسطيين أمثالنا وجيراننا أن عاطفتنا تغلب على واقعيتنا فتشوش على تفكيرنا وتشتت أفكارنا، وهذا الأمر لا يصب في مصلحتنا لأنه يؤثر على قراراتنا التي تسيطر عليها المشاعر وتجعلها هشة.
وهذه هي مشكلتنا نحن العرب لأننا نظن دائما أننا نتميز عن الغربيين بعرض عواطفنا على الملأ، لتنحسر في نطاق الكلام والشاعرية، على عكس بعض الغربيين الذين يبدون بخلاء من حيث المسرح العاطفي ولكن أفعالهم تعبر عن عاطفة دفينة تترجم من خلال التبرعات لمؤسسات خيرية، والمشكلة الأخرى في عالمنا أن أصحاب القلوب الكبيرة يتبرعون لأبناء جنسهم على عكس الأجانب الذين يتبرعون بغض النظر عن الجنسية والهوية والانتماء العرقي.
ففي حفل حضرته في لندن أخيرا تنظمه مؤسسة تشرف عليها فتاة بريطانية في لبنان تعنى بتعليم الأطفال اللاجئين التمثيل والغناء، تأثرت جدا عندما رأيت حماس تلك الفتاة والعاملين معها من الجنسية نفسها الذين كرسوا وقتهم بالكامل لتحقيق أحلام الصغار الذين حرمتهم الحرب من بيوتهم وأحلامهم، وكان هدف الحفل تجميع المال لصالح المؤسسة لتمويلها وتأمين ما يلزم لتحقيق أمنيات الصغار.
وهذا الأمر يدل على أن العواطف يجب أن تكون محصورة في نطاقها الحقيقي ولا يجب أن تتعدى الحدود الطبيعية للعلاقات، تماما مثل العلاقات العامة التي يظن البعض بأنها صداقات في حين أنها في الواقع ليست سوى علاقات عابرة تنتهي بانتهاء عقود العمل بين الطرفين.
سيمونا صديقتي ليست قاسية القلب لا بل إن قلبها على عملها ولهذا السبب فصلت ما بين الأحاسيس التي تحول دون اتخاذها قرارات صارمة في بعض الأوقات، وكم أضحكتني وهي تقول لي بلكنتها الإيطالية عندما تتكلم الإنجليزية وهي تعبر عن امتعاضها من طريقة العمل مع زملائها الفرنسيين في المصرف وجملتها الشهيرة كانت: «قتلني زملائي الجدد بفيض حبهم من اليوم الأول لانضمامي للعمل معهم تروقين لنا... نحن نحبك». وتابعت: «في العمل الاحترام واجب ولكن الحب ليس إجباريا».
أنا من الأشخاص الذين يؤمنون بأن العلاقات الجيدة في العمل أو في أي مكان آخر تسهل الأمور وتجعل الأجواء صحية... ولكن «الكثير من الحب ما قتل».
7:52 دقيقه
TT
العواطف على مفترق الواقعية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة