سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

سطو الجغرافيا... لا يبرر السطو على التاريخ

دعا أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجامعة العربية، إلى اجتماع طارئ على مستوى وزراء الخارجية، ينعقد في مقر الجامعة بالقاهرة صباح اليوم. الاجتماع يأتي بناء على طلب من الأردن صادف دعماً قوياً من الدول الأعضاء، وليس أمام المجتمعين من الوزراء العرب، سوى بند واحد هو ممارسات إسرائيل في القدس، وفي حرم المسجد الأقصى، على مدى أيام مضت!
ومنذ اللحظة الأولى للدعوة إلى الاجتماع الطارئ، صباح الأحد الماضي، أعلن الأمين العام للجامعة بأوضح لغة، أن القدس خط أحمر، وأن العرب والمسلمين لن يقبلوا المساس به، وأن على إسرائيل أن تفرق جيداً بين انتهاكات مرفوضة تمارسها كل يوم تقريباً، ضد كل فلسطيني في أرضه المحتلة، وبين استفزاز مشاعر كل عربي، وكل مسلم، بما بدر منها هذه الأيام، من محاولات فرض واقع جديد في القدس، وكذلك في المسجد الأقصى على السواء!
والمأمول أن تكون رسالة أبو الغيط قد وصلت إلى السلطات الإسرائيلية في تل أبيب، بالوضوح المطلوب، وأن تكون قد وعتها جيداً، لأن الحكومة الإسرائيلية إذا كانت تتصور أن ما يحدث في المنطقة يمكن أن ييسر لها مهمة فرض أمر واقع جديد في القدس، فهي مُخطئة في حساباتها، وعليها أن تراجعها سريعاً!
عليها أن تراجع مخططاتها في هذا الشأن، سريعاً، لا لشيء إلا لأنها فيما يتصل بالقدس تحديداً، وبالمسجد الأقصى على وجه الخصوص، ستجد نفسها في مواجهة مع شعوب لا مع حكومات، وهذا بالضبط هو الفرق الذي عليها أن تعيه!
إننا عندما نتكلم عن المسجد الأقصى، فنحن كعرب، وكمسلمين، نتكلم عن أولى القبلتين، وعن الحرم الثالث بعد الحرم المكي والحرم النبوي، وبالتالي فإننا إزاء بقعة مقدسة تخص كل عربي، وتخص كل مسلم، دون استثناء، أكثر مما تخص أي حكومة عربية فوق مقاعدها، وبكل ما يعنيه ذلك لدى المسلم، وأيضاً لدى العربي!
على تل أبيب أن تفهم، أن الأمر إذا تعلق باعتداء على القدس، أو على الحرم القدسي من جانبها، بالشكل المستفز لكل مشاعر عربية مسلمة، على نحو ما تابع العالم طوال أسبوعين تقريباً، فإن المسلم سيتصرف عندئذ من تلقاء نفسه، دفاعاً عن مقدساته، وكذلك سيفعل كل عربي.. فهل تعي إسرائيل هذا، وهل تعي عواقبه؟!
لقد كان السؤال منذ أن بدأت الاستفزازات الإسرائيلية، على هذا النحو: لماذا الآن؟!.. ولماذا في هذا التوقيت بالذات تمارس إسرائيل اعتداءات غير مسبوقة في القدس، وفي الحرم القدسي؟!.. هل هناك علاقة بين حال المنطقة المضطرب عموماً، وبين تصرفات واستفزازات إسرائيلية حمقاء من نوع ما تابعناه ولا نزال نتابع آثاره وتداعياته؟!
أعتقد أننا لا يمكن أن نفصل بين هذا كله، وبين ما صدر عن المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم، في باريس، عن القدس في البداية، قبل عدة أشهر، وعن بيت لحم من بعد القدس، ثم عن البلدة القديمة في مدينة الخليل مؤخراً.. إن المنظمة العالمية الشهيرة بالـ«يونيسكو» في العاصمة الفرنسية، معنية في المقام الأول بالتراث العالمي، وتحديد مكانه، وحمايته من أي اعتداء.
وقد جُن جنون حكومة نتنياهو، يوم أن قالت اليونيسكو إن القدس مدينة للتراث العالمي، وإن حمايتها مسؤوليتها، وإن ما ينطبق على القدس، ينطبق هو نفسه على بيت لحم!.. لم تصدق إسرائيل نفسها، وراحت تكيل التهم للمنظمة العالمية، بل وتهددها، ثم توعز إلى الإدارة الأميركية في واشنطن أن تشاركها الهجوم على اليونيسكو، وتشاركها رفض قرار القدس وقرار بيت لحم!
ولم تخضع الـ«يونيسكو» أمام التهديدات، ولم تتراجع عما تراه مسؤوليتها الأولى تجاه كل تراث من نوع تراث القدس، وتراث بيت لحم!
وخلال اجتماع لجنة التراث العالمي فيها، في إحدى المدن البولندية، قبل أسابيع، صدر قرار ثالث يقول إن البلدة القديمة في مدينة الخليل، منطقة محمية!
وما كاد القرار يصدر حتى تعرضت المنظمة العالمية لحملة من الهجوم في الصحافة الإسرائيلية، لم يسبق أن تعرضت لها بهذا الحجم، ولا بهذه الدرجة من الحدة!.. مع أنها كمنظمة مسؤولة عن شؤون التربية، والعلوم، والثقافة في العالم، لم تفعل شيئاً سوى أنها مارست ما يجب عليها أن تمارسه!
واقترنت الحملة بقرار من رئيس الحكومة الإسرائيلية أعلن من خلاله، خصم مليون دولار من مساهمة بلاده في ميزانية اليونيسكو، وتوجيهها إلى بناء متحف للتراث اليهودي!.. وفي تصريح له وصف نتنياهو قرار اعتبار البلدة القديمة في الخليل منطقة محمية، بأنه قرار سخيف!
يجمع المتابع منا لهذا الحاصل أمامه، بعضه على بعض، فلا يستطيع أن يفصل بينه، وبين هذه القرارات الشجاعة الصادرة عن اليونيسكو.. وهي شجاعة لأن اليونيسكو تعرف أنها يمكن أن تعاني كثيراً من جرّاء ما صدر عنها، بشأن القدس، وبيت لحم، والبلدة القديمة في الخليل، ومع ذلك لم تتراجع، ولم تخف، ولم تستسلم!
لم تتراجع اليونيسكو، ولم تخف، ولم تستسلم، لأنها في غالب الظن رأت أن السطو على الجغرافيا من جانب إسرائيل، لا يبرر السطو على التاريخ.