باري ريثولتز
بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

تأثير الاقتصاد في السياسة الوطنية والانتخابات

يعد أحد معوقات الانتعاش من الأزمة المالية مدى تنوعها والتصورات المتعددة لها من جانب مختلف الناس في أجزاء مختلفة من الولايات المتحدة.
وكل ذلك يذكِّرني بقصيدة شعرية رائعة من تأليف جون غودفري ساكس بعنوان «العميان والفيل». وفيها، كان هناك ستة من الرجال المكفوفين الذين يلمسون ويصفون أجزاء مختلفة من جسد الفيل. وتصوراتهم غير المكتملة تجعل من المحال إدراك الحيوان بأكمله.
وتنسحب أمثولة الفيل على الاقتصاد الأميركي، إذ إن المكونات الإقليمية مختلفة للغاية، وفي غالب الأمر لا تحمل تشابهاً حقيقياً ببعضها البعض. ومحاولات الخروج باستنتاجات واسعة من منطقة أو إقليم واحد سوف تؤدي حتماً إلى المزيد من التضليل.
سوف يتذكر القراء المعتادون لمقالاتي أنني بحثتُ في هذه الاختلافات المتنوعة من قبل، في معرض محاولتي لتوصيف لماذا يبدو الأمر بالنسبة لكثير من المواطنين الأميركيين أن الركود لم ينتهِ بعد. وكانت أغلب التعليقات تدور حول السياسات التي تحرك المشاعر حيال الاقتصاد.
ولكن يعتريني فضول خاص بشأن العلاقة السببية العكسية: كيف يؤثر الاقتصاد المحلي في السياسة الوطنية وفي التصويت على مستوى الدولة؟ ومن خلال هذا المنظور أحاول تفَهُّم الانقسام بين الولايات الحمراء والزرقاء (الجمهورية والديمقراطية) الذي بات جليّاً وصارخاً للغاية في الولايات المتحدة، ومحوِّلاً البلاد إلى معسكرات متنافسة لا تعترف أو تفهم بعضها البعض.
وقبل أن ننظر في ذلك، دعونا نستعرض بعضاً من المناقشات السابقة: لقد لاحظنا كيف كان الانتعاش غير متكافئ بصورة كبيرة على عدة جوانب مختلفة من الاقتصاد. فالإسكان، على سبيل المثال، قد شهد انتعاشاً قوياً في بعض المناطق في حين أنه لا يزال في حالة ركود كبيرة في مناطق أخرى. والفوارق الإقليمية صارخة جدّاً في المناطق الريفية التي كانت تعتمد في السابق على التصنيع وتشهد انخفاضاً حالياً، في حين أن المناطق الحضرية التي تعتمد على خدمات المعلومات تشهد ازدهاراً. ويصح المثال ذاته على الطبقات الاقتصادية، بناء على أساس إذا كنتَ من أبناء نسبة 1 في المائة الثرية أو حتى نسبة 0.1 الأعلى ثراء. فإن النسبة المئوية العليا قد حازت لنفسها حصة كبيرة ومعتبَرة من جميع مكاسب الدخل منذ انكماش الركود في عام 2009.
ومما لا شك فيه، فإن الانتعاش البطيء من الأزمة الائتمانية يستحق قدراً من اللوم. فعندما نطالع الأرقام المسجلة منذ عام 2009، نرى تحسناً مطرداً ولكنه تدريجي. والبطالة، التي بلغت 10 نقاط مئوية، انخفضت إلى أدنى من النصف، وهي الآن أقل من 5 نقاط مئوية فعليّاً. وفي السنوات الثماني قبل انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني)، تمت إضافة نحو 12 مليون وظيفة جديدة. ويشتكي أرباب الأعمال الآن من قبل الأيدي العاملة في بعض الصناعات. والإعلانات عن الوظائف الجديدة، لا سيما بالنسبة للعمالة الماهرة، يمكن أن تبقى شاغرة لفترات مطوَّلَة من الوقت. والأجور، التي أصابها الجمود وربما الهبوط في القيمة الحقيقية منذ خمس سنوات أو يزيد، صارت الآن آخذة في الارتفاع بوتيرة أسرع من التضخم.
ولكن ليست الأوضاع كلها وردية، كما تكشف كثير من نقاط البيانات الاقتصادية المهمة: نمو الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز نقطتين مئويتين، وهي نسبة تكفي بالكاد لتوليد حالة من التفاؤل المستدام بين المستهلكين. ولا تزال معظم أشكال الائتمان محدودة، خصوصاً بالنسبة للرهن العقاري. وتصور الإحباط لصاحب المنزل المحتمل الذي لا يمكنه الاستفادة من أدنى المعدلات المسجلة في التاريخ الحديث.
وعلى الرغم من أن معدل التضخم لا يزال متواضعاً، فإن الخدمات المهمة مثل الرعاية الصحية، والإسكان والتعليم قد ارتفعت تكاليفها بشدة. وفي حين أن نمو الوظائف كان ثابتاً، فإن العديد منها توجد في صناعات الخدمات ذات الأجور المتدنية. والاقتصاد المزعج، والموصوف بإمكانات النمو الكبيرة، يترك الكثير من الناس بلا فرص عمل على الإطلاق. ويأتي ذلك على رأس ثلاثة عقود من الدخل الذي لم يطرأ عليه تغيير يُذكر في معدلات التضخم بالنسبة لمعظم الأسر الأميركية.
ومدى سعادة الفرد يتوقف على تأثير بعض العوامل على حياتك.
ولقد كنتُ أناقش هذه المسألة مع خبير الإحصاء سليل ميهتا، الذي يدرس في برنامج التحليلات التطبيقية الملحق بكلية كولومبيا للدراسات المهنية، وكان مدير التحليلات في خطة الإنقاذ المالي للحكومة الفيدرالية بقيمة 700 مليار دولار، وبرنامج إنقاذ الأصول المتعثرة.
بحث السيد ميهتا في أنماط التصويت في جميع أنحاء البلاد، محاولاً العثور على البيانات التي فسَّرَت نتائج الانتخابات المدهشة. وربما سبَّبَتْ صدمةً لكثير من الناس، ولكن ليس إلى السيد ميهتا - الذي لاحظ أن كثيراً ممن شملتهم استطلاعات الرأي كانوا يقللون من فرص فوز دونالد ترمب، بناء على بعض البيانات المتاحة أدناه.
تنقسم البيانات الاقتصادية التي تنطوي على النتائج الانتخابية المحتملة إلى بضعة أنواع موسعة. وأولها الولايات الحمراء التي صوتت لصالح ترمب حيث كان النمو والناتج المحلي الإجمالي أدنى من المعدلات الوطنية. ويوضح السيد ميهتا الأمر: «الولايات الجمهورية لديها نصيب للفرد من الناتج المحلي الإجمالي وهو 45 ألف دولار (مرتبط بسعر الدولار لعام 2009)، وهي نسبة على ما يرام بالنسبة لبعض الولايات الأخرى، ولكن بالنسبة للولايات الديمقراطية فكان المعدل أعلى بنحو 25 في المائة عند مبلغ 57 ألف دولار». وأولئك الذين يحظون بأوضاع اقتصادية أفضل يميلون إلى التصويت على حالة الوضع الراهن أو الرئيس الحالي، في حين أن الذين يعانون من الشدائد الاقتصادية يميلون إلى اختيار مرشح رئاسي جديد. وعلى المنوال ذاته، لاحظ السيد ميهتا أنه «شهدت الولايات الحمراء تحسُّناً بنسبة 2.7 نقطة مئوية فقط في البطالة منذ الانتخابات الماضية، في حين أن الولايات الديمقراطية الزرقاء شهدت تحسناً بنسبة 3.6 نقطة مئوية على المقياس نفسه».
وحيث تزداد أهمية الأمور، يأتي تحليل السيد ميهتا لما سماه «الولايات المنسية». وهذه الولايات تتقاسم في بعض السمات المشتركة: (1) نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الأدنى من المتوسط، و(2) التحسن الأدنى من المتوسط في معدل البطالة، ثم (3) إنهم صوتوا بإيجابية لصالح باراك أوباما. وهناك ست ولايات تنطبق عليها هذه السمات، ألا وهي فلوريدا، وميشيغان، وويسكونسن، وأوهايو، وبنسلفانيا، وأيوا. وكلها صوتت لصالح ترمب في انتخابات العام الماضي.
لا يزال كثير من الناس خاضعين لتأثير انتخابات عام 2016. ولكن، بالنظر إلى الماضي، كانت الإشارات واضحة وظاهرة للجميع. وإنني أعيد الحديث حول هذه النقطة بسبب أنها من الأمور المهمة لشاغلي المناصب والمنافسين عليها لكي يضعوها نصب أعينهم عند التطلع إلى الأمام نحو انتخابات عامي 2018 و2020 المقبلة. إن الولايات المتحدة ليست دولة الاقتصاد الواحد، ولكنها دولة الاقتصادات المتعددة، وعلى غرار السياسة، فهي محلية بشكل مكثف. ولكن، كيف سوف تلعب المناطق والصناعات والمجموعات الديموغرافية المختلفة دورها الحاسم في النتائج الانتخابية المستقبلية، فلننتظر لنرى.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»