مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

في ذكرى رحيل النائبة البريطانية جو كوكس

تحل الأسبوع المقبل الذكرى الأولى لاغتيال النائبة البريطانية جو كوكس، أول نائبة بريطانية تقتل منذ عام 1990 عندما قتل النائب البريطاني إيان غو على أيدي الانفصاليين الآيرلنديين. والاغتيال السياسي لكوكس، مثل اغتيال غو، شكل نقطة فارقة في الحياة السياسية البريطانية التي تتعرض لمحاولات تفرقة وتأجيج سياسي يطمح له أيضا المجرمون الذين هاجموا جسر لندن ومانشستر. وبينما تبحث الحكومة البريطانية عن استراتيجيات لمكافحة الإرهاب، عليها أن تركز أيضا على سياسات لحماية المجتمع ومنع التفرقة. الذكرى الأولى لرحيل كوكس، التي قتلت وسط مشاحنات سياسية حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي قبيل استفتاء «بريكست» العام الماضي، تأتي وسط جدالات حول مستقبل المملكة المتحدة السياسي مع انتخابات تشريعية مشحونة يوم الخميس المقبل.
كوكس كانت رمزا للسياسية النموذجية، ترى هدفها في الحياة الخدمة العامة وإعطاء صوت للأضعف منها. تعرفت على كوكس عام 2009 وكانت قد تركت عملها في مؤسسة «أوكسفام» الخيرية بعد 8 سنوات أخذتها إلى دول تشهد نزاعات دامية، مثل أفغانستان، كرست فيها القناعة بأن ما يحدث في بلد ما يؤثر مباشرة على باقي العالم. حدثتني كوكس حينها عن قرارها دخول مجال السياسة من أوسع أبوابه والانضمام إلى حزب العمال، سعيا لمعالجة الأزمات الإنسانية والتقريب بين وجهات النظر، بالإضافة إلى رفع أصوات النساء والأقليات في المعترك السياسي. لم تكن كوكس ساذجة حول صعوبة العمل السياسي، ولكنها كانت مؤمنة بأنه يمكن للمرء أن يحدث تغييرا إيجابيا في حياته وحياة الآخرين إذا اختار ذلك. كما أن خطابها السياسي ركز على أوجه التشابه بين الناس، بدلا من الاختلافات، ساعية لدعم اللحمة الاجتماعية البريطانية.
وعلى الرغم من اهتمامها بالسياسة المحلية، التي أدخلتها مجلس النواب البريطاني عام 2015، فإن كوكس لم تتخل عن اهتمامها بالقضايا الدولية؛ ففور انضمامها لمجلس النواب، أسست كوكس «المجموعة البريطانية الصديقة لسوريا» في البرلمان البريطاني مع النائب من حزب المحافظين آندرو ميتشل للضغط على الحكومة البريطانية للعمل على حل الأزمة السورية. كانت مؤمنة بأن التعدي على مواطن سوري بالأهمية نفسها للتعدي على مواطن بريطاني تمثله، مقتنعة بأن شعوب العالم يعتمد بعضها على بعض، وأن تجاهل أزمة مثل الأزمة السورية سيولد مشكلات لا تحمد عقباها.
خلال العام الماضي قبل مقتلها، كانت كوكس وزوجها برندان قلقين من ازدياد التطرف في المتجمعات الأوروبية؛ التطرف اليميني والتطرف العنيف. وحرصت من خلال منبر البرلمان على أن تشدد على التقريب بين وجهات النظر، معتمدة على تصريح قالته في خطابها الأول أمام البرلمان البريطاني، وهو أن «ما يجمعنا (بصفتنا بشراً) أكثر بكثير مما يفرقنا».
قتلت كوكس وهي تزور دائرتها الانتخابية وتتواصل مع أهالي مدينتها باتلي آند سبين في يوركشاير خلال حملة انتخابية حول الاستفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. قتلت على يدي توماس ماير، وهو يميني متطرف صاح: «بريطانيا أولاً» عندما قتلها، وهو من المتعاطفين مع النازية والرافضين لتعدد الهويات في المجتمع البريطاني. تطرف ماير، الذي حكم عليه بالسجن المؤبد، لا يختلف عن تطرف الإرهابيين الذين استهدفوا جسر لندن هذا الأسبوع أو مدينة مانشستر قبل ذلك... هدفهم التفرقة وزرع الخوف في قلوب المدنيين.
قاتل كوكس ومنفذو الهجمات الإرهابية على جسر لندن هذا الأسبوع لديهم الهدف نفسه؛ تأجيج الاختلافات وزرع الفتنة. أقل ما يمكننا أن نقوم به هو إحياء ذكرى أناس مثل جو كوكس وترديد عبارة: «ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا».
وهذه هي الرسالة التي يجب أن يتذكرها الناخبون البريطانيون وهم يتوجهون لصناديق الاقتراع بعد غد الخميس للمشاركة في الانتخابات التشريعية. فعلى الرغم من أن رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي أطلقت تسمية «انتخابات بريكست» على الانتخابات التي ستحدد مصير كيفية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإن في صلب هذه الانتخابات امتحاناً للتعايش سوياً. عامان من التقلبات السياسية البريطانية التي تضع مستقبل المملكة المتحدة في موقع تساؤل؛ من إصرار زعيمة الحزب الاسكوتلندي الوطني نيكولا سترجون على إجراء استفتاء جديد حول الاستقلال، إلى عدم إقرار شكل الاتفاقية التجارية التي ستحكم العلاقة التجارية بين لندن وبروكسل. وهذه التقلبات من شأنها أن تزيد من الاضطرابات الاجتماعية، مما يجعل بريطانيا بحاجة لأصوات مثل صوت كوكس، الذي لم يغيبه الموت إذا أحيينا ذكراه.