غالية قباني
كاتبة وروائية سورية مقيمة في بريطانيا من اسرة «الشرق الأوسط»
TT

لقد تشابهت علينا الصور

في عملنا الصحافي داخل الجريدة، تصلنا يوميا مئات الصور عبر الوكالات ووسائل التواصل الاجتماعي، غالبيتها من بؤر التوتر في العالم. ولأن الأحداث باتت تشترك في عناصرها من قصف وتفجير ودماء، إلى حد أنه للحظة ومن دون شرح بالكلمات، تتشابه علينا الصور، وتتداخل مواقعها.
قبل سنتين كنت عضو لجنة تحكيم لجائزة عربية في مجال الصورة، وكانت الصور تصل للمحكمين من دون اسم المصور ومن دون معلومات أخرى عن الجغرافيا التي وقعت فيها الصور المرشحة. وكان علي أن أدقق بعقابيل التفجيرات أو القصف، لأخمن مصدرها، وأتمكن من فهم تفاصيلها وقدرة المصور الصحافي على التقاطها، من ذلك التدقيق في ملامح البشر هل هم أقرب لسكان اليمن أم سوريا أم غزة أم العراق؟ أو أحاول التخمين بحسب أسلوب الملابس، أو حجاب النساء، أو تفاصيل خلفية الصورة من معالم شهيرة قد تكون مألوفة لدي بسبب مطالعتي لها في الإعلام أو من زيارات سابقة.
لا تشكل الصور لغزا، إن فهم ذلك من كلامي، وإنها في العموم كما يقول خبراء الإعلام «خطاب مكتمل»، لا تحتاج دائما إلى الشرح اللغوي كي تنفذ إلى إدراك المتلقي. بل إن بلاغة الصورة تصل أحيانا إلى حد اختصار حدث أو ملف بأكمله. فمن منا رأى صورة الطفلة الفيتنامية التي هربت من حرائق القصف خلفها وركضت عارية، ولم يدرك حجم العنف في تلك الحرب التي تورطت فيها أميركا في حقبة الستينات. أو صورة الرجل السوري الذي يرفع رضيعه القتيل باتجاه السماء، ليدرك حجم وجعه الذي لا تلخصه كلمات، وحجم المأساة السورية عموما التي هيمن عليها جحيم القصف الوحشي للطيران على المدنيين. صورة أخرى لوجوم شاب عراقي من أبناء الموصل أو بغداد وسط نيران التفجير الإرهابي أو الحرب على «داعش». الصور بهذا المعنى «خطاب مكتمل» بحد ذاته، وإن جاء النص لاحقا، فهو يسهم بمزيد من التفاصيل ليس إلا.
غير أنني عندما أقول «تشابهت علينا الصور» فإنما أعني أن أحداث العالم من إرهاب وحروب وعنف عموما، سادت وباتت عابرة للبلدان في اللحظة ذاتها، حتى تداخلت التفاصيل البصرية واشتبكت وقائعها.
غير أن لتكرار أحداث العنف وتشابه الصور المبثوثة تأثيرات سلبية لاحقة على أكثر من صعيد، إذ يدفع تواتر صور الفجائع إلى هبوط مفاعيلها حد مستوى «العادية» لدى المتلقي، وللفضائيات الآن دور في توزيع تلك الصور الثابتة والمتحركة وتكرارها على مدار اليوم، كذلك منصات «يوتيوب» ووسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى مشاركة الأفراد لها عبر «واتساب» وغيره من وسائل اتصال على الهواتف والألواح والأجهزة الشخصية عموما.
وأن تتحول صور الفجائع والضحايا إلى العادي المكرور والمتوقع، يعني فقدانها للوظيفة البصرية الإدراكية، وخفض قدرتها على إحداث الصدمة والتأثير الأخلاقي على المتلقين، فلا يعود منسوب الدماء العالي أو أشلاء البشر أو تشريد المدنيين يدفع إلى التعاطف أو التحرك لاتخاذ مواقف جماعية وقوى ضغط على الأطراف المتصارعة، لوقف العنف وحماية المدنيين على الأقل. كما أن وضع الفجائع تحت خانات محددة مكرورة، يختصرها وينمطها بتوصيفات «الإرهاب و(داعش) و(القاعدة) أو الحرب الأهلية»، فتصبح موضوعات مملة لمخيلة المتلقي التي تصل إلى مرحلة الإشباع التي تعطل جوانب أخرى مثل منظومتيه الأخلاقية والقيمية.
تتشابه فجائع العالم وتتشابه علينا الصور، ويبدو المؤمن الحقيقي بالقيم الأخلاقية والمهنية مثل أي مؤمن آخر، قابضا على الجمر، أو على البوصلة التي تدله إلى الصواب، مجاهدا ألا يشوش عليها تكرار الأحداث وألا يحولها إلى حدث نمطي يومي يفقده التعاطف مع الضحايا ويفقده منظومة أخلاقية قائمة على التعاطف مع مجتمعات أخرى ومعاناة بشر صودف أنهم وجدوا في المكان المرشح للعنف بأشكاله.