سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

لو عاش طه حسين!

كان طه حسين وزيراً للمعارف، في آخر حكومة وفدية تشكلت قبل قيام ثورة يوليو 1952، وعندما قامت الثورة، جرى تغيير اسم الوزارة من (المعارف) إلى (التربية والتعليم) ثم بقي هذا هو اسمها حتى اليوم، دون أن يعرف أحد لماذا، فالاسم القديم ألطف، فضلا عن أنه أكثر تعبيراً عن دور الوزارة المفترض في مجتمعها!
وفي فترة وجوده القصيرة في الوزارة، تبنى عميد الأدب العربي شعاراً شاع عنه، وارتبط به، وكان المصريون يرددونه، ولا يزالون، ليس فقط في مقام الإشارة إلى اهتمام الوفد، وحكومته، ووزير معارفها، بالتعليم، كقضية، ولكن في مقام ما يجب أن يكون عليه التعليم، باعتباره خدمة عامة على الحكومة أن تؤديها لمواطنيها في زمن طه حسين، وفي غير زمن طه حسين!
كان الشعار يقول إن التعليم كالماء والهواء... أو بمعنى أدق، فإنه يجب أن يكون كذلك!
وكان طه حسين يقصد من وراء شعاره الأشهر، كما شرحه في أكثر من مرة، وفي كل مناسبة سألوه فيها عن الشعار، أن يُتاح التعليم لكل مواطن، إتاحة الماء والهواء بالضبط لكل الناس!
وأظن أن الإتاحة التي قصدها العميد من وراء شعاره، كانت في اتجاه كل مواطن عربي، ولم تكن تخص المصريين وحدهم بطبيعة الحال!
ولا بد أن الإتاحة هنا، هي الإتاحة المجانية، إذ لم يحدث إلى اليوم، أن كان الهواء سلعة يبيعها شخص لشخص، ولا حكومة لمواطنيها، وكذلك الحال بالنسبة للماء... وإن كان وضع الماء قد اختلف، لأنه في زمن طه حسين لم يكن على الندرة التي صار عليها، فيما بعد زمنه، حتى إن كثيرين قد راحوا يرشحون الماء سبباً لحروب يمكن أن تنشب في المستقبل البعيد، أو ربما القريب، بين دول مختلفة بامتداد العالم.
ولأن عميد الأدب هو الذي أطلق الشعار، ولأنه هو صاحبه، فقد راح يطبقه وزيراً، وكانت حكومة الوفد هي التي أقرت مجانية التعليم الأساسي في مرحلتيه الابتدائية والإعدادية، ثم حدث أن جاءت الثورة لاحقاً، لتشمل المرحلة الثانوية، ومرحلة الجامعة، بالمجانية ذاتها!
وقد ثبت بالتجربة العملية على مستوى شتى الدول، منذ أيام طه حسين، إلى هذه الأيام، أن المجانية كمبدأ في التعليم، لا يجوز أن تتعدى مرحلة التعليم الأساسي، فليست هناك دولة في العالم المتقدم، إلا وتتعامل مع المجانية على هذا الأساس، لأن المجانية الحقيقية هي تلك التي تُتاح للطالب خلال السنوات التسع الأولى من تعليمه، ليكون من حق الطالب نفسه أن يكمل تعليمه بعدها، على نفقة الدولة إذا كان متفوقاً، وعلى نفقته هو، إذا لم يكن من بين المتفوقين!
ثبت أن هذا هو الصحيح، بل الأصح، وثبت أن الدول التي أطلقت المجانية، في جميع مراحل التعليم، دون تمييز، ودون أن تكون عندها القدرة المادية الكافية للإنفاق عليها، لم تحصل في النهاية، على أي تعليم، ولا على أي شيء له قيمة، وأنها حصلت بالكثير على خريجين يتعاقبون على سوق العمل، دون أن يكون لهم مكان فيه، ليس بالطبع لأنه لا مكان لهم هناك، ولكن لأنهم يتخرجون غير مؤهلين لما تحتاجه هذه السوق!
القصة في الأصل هي أنه لا يوجد تعليم مجاني من الأساس، ولكن يوجد تعليم تنفق عليه الدولة من خزانتها العامة، لتجعله مجانياً، والقصة أيضا أن التعليم كخدمة عامة، له تكلفة، وليس مجانياً في كل أحواله، وهذه التكلفة لا بد أن يدفعها طرف من طرفي العملية التعليمية: الطالب إذا لم يكن متفوقاً... أو الدولة على متفوقيها... ولا يوجد بديل ثالث!
وقد جاء وقت اشتكى فيه المصريون من تلوث الماء والهواء، فتساءل كثيرون منهم عما إذا كان طه حسين سيظل يُطلق شعاره الشهير، لو كان قد عاش بيننا إلى اليوم، ليرى أن هذا هو وضع الماء، وأن هذا هو حال الهواء، تلوثاً، وسوء حال؟!
بعض الذين اقتربوا من الرجل، في آخر أيامه، يقولون إنه قد راجع نفسه في شعاره، في مراحل حياته الأخيرة، وأنه بمراجعته أراد أن يقول للدولة... أي دولة... إن المجانية التي كانت حكومة الوفد قد أقرتها على يديه، والتي كانت يقينا لديه، ومضمون شعاره، وجوهره الأصيل، ليس معناها إتاحة الذهاب إلى المدرسة والجامعة للكافة، لمجرد الذهاب والمجيء، لأنه فارق كبير جداً بين أن يذهب الطالب إلى المدرسة أو الجامعة، ويظل يروح إليهما ويجيء، وفقط، وبين أن يتعلم فيهما بجد، ويحصل منهما على التعليم كخدمة عامة مكتملة وحقيقية!
ليس في الدنيا شيء اسمه تعليم مجاني، وإنما فيها تعليم له ثمن، وليس مُهما مَنْ يدفع هذا الثمن، فالمهم أن يجري دفعه، من جانب الدولة، أو من جانب الطالب، وإذا لم يحدث هذا، فلا تعليم، لأن طرفاً ثالثاً لن يدفعه، حتى ولو ظللنا نتكلم عن مجانيته عقوداً من الزمان!
لنا صديق من رفاق الدراسة في جامعة القاهرة، كان يتندر على حكاية المجانية فيها ويقول إن رسوم دراسته في هذه الجامعة الأم، وكان ذلك في مطلع ثمانينات القرن الماضي، كانت جنيهات معدودة، وأنه دفعها فحصل على تعليم يوازي قيمتها، وأنه لو دفع رسوماً أكثر، لحصل على خدمة تعليمية بجودة أعلى، وأن هذا هو كل ما في الموضوع!