باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

اتفاق موسكو وواشنطن يخلط الأوراق من جديد

ترجح الاستقصاءات في فرنسا فوز أحد اثنين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، أي ماكرون أو لوبان، وبذلك سوف يفقد الحزبان اللذان حكما فرنسا منذ قيام الجمهورية الخامسة فيها، الديغولي اليميني - الوسطي والحزب الاشتراكي، الحكم. وأن تغييراً ما سوف يطرأ على سياسة فرنسا الخارجية ولا سيما الأوروبية، ومن المنتظر أن يفتح الرئيس الفرنسي القادم صفحة جديدة في علاقات فرنسا الخارجية، تضاف إلى صفحات وتحولات كبيرة في العلاقات الدولية مع وصول الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والدور الدولي التدخلي الواسع الذي باتت روسيا تلعبه في الشرق الأوسط.
صحيح أن القرارات الكبيرة في العلاقات الدولية لا يتخذها رئيس الدولة على هواه ومزاجه. وما نشهده من تنازع بين الرئيس الأميركي ترمب مع الكونغرس والجسم القضائي دليل على ذلك. ولكنه صحيح أيضاً أن الشعبين اللذين انتخبا ترمب وبوتين وباتا يميلان إلى انتخاب أحزاب ورؤساء وطنيين يمينيين أو متطرفين جدد في عدة بلدان أوروبية وغير أوروبية، إنما يعبران عن شعور عميق بالقلق المصيري ورغبة حقيقية في التغيير، لا سيما في مجال الحماية من العمليات الإرهابية... ولكن هل التغيير سهل في العالم الجديد الذي ولدته القفزة التكنولوجية المعلوماتية في العقدين الأخيرين؟ وفي أي اتجاه وعلى أي صعيد ومن أجل أي غاية أو هدف بالضبط؟
لا شك في أن الولايات المتحدة وروسيا ما زالتا تشكلان اللاعبين الرئيسيين على المسرح الدولي، واللتين يؤثر تفاهمهما أو تنازعهما على المناخات الدولية، بل على مصائر حكومات وشعوب. تضاف إليهما الصين بعد القفزة الكبيرة التي حققتها في السنوات العشرين الأخيرة... ولقد شكل الاتحاد الأوروبي القوة الدولية الثالثة عسكرياً واقتصادياً. ولكن هذا الاتحاد بات اليوم مهدداً من داخله ومن خارجه؛ ففي أكثر من دولة أوروبية تيار شبيه بالتيار الشعبي الذي دفع بريطانيا إلى الانسحاب من الاتحاد. والرئيس الأميركي الجديد لا يخفي رغبته في جعل الاتحاد يدفع ثمن الحماية العسكرية التي يقدمها له. كما أن روسيا لا تخفي انزعاجها من امتداد الاتحاد إلى حدودها وما يشكله ذلك، بالإضافة إلى تنافسهما - أو بالأحرى تعاونهما - في الصراعات المحتدمة في الشرق الأوسط. كما تبين في اتفاقهما الأخير على تقديم عمليات تصفية «داعش» على تغيير النظام في سوريا.
أما التيارات الشعبية الوطنية الأوروبية المتململة من الاتحاد فلا تنقصها الحجج للمطالبة بالخروج منه، أو على الأقل، بالتخلص من بعض قيوده. ولقد جاء الخطر الإرهابي «الإسلاموي» ليعزز مشاعر التخوف والتعصب الوطني في الغرب.
إنه عالم جديد يولد، ولكنه عالم لم ترتسم خطوط صورته بوضوح بعد. عالم يوحد بين دوله عنوان محاربة الإرهاب، أما ما يأتي تحته - أي تسمية الإرهابيين وتحديد الإرهاب - ووقف التقاتل في سوريا والعراق، فليس هناك من توافق بين الدول عليه.
يقول الكاتب الصحافي الأميركي، ليبرمان، في كتابه الأخير إن العالم الذي ولدته القفزة التكنولوجية المعلوماتية التواصلية، هو الذي سيفرض نفسه على كل الدول وعلى العلاقات الدولية، بل على ممارسة الديمقراطية وبلورة أماني الشعوب ومطالبها، ربما. ولكن في انتظار حدوث ذلك - أو غيره - فإن المصالح والسياسة الدولية تمران بحالة تضارب وخبط عشوائي في الشرق الأوسط، وعلى الأخص في سوريا والعراق، مكبدة ملايين العرب والمسلمين ثمناً لم يعرفه تاريخهم الحديث من قبل.
لا شك في أن التغيير في قمة الحكم في الدول الكبرى، الذي حصل أو سيحصل، من شأنه التأثير على الحروب الأهلية والتمزقات المصيرية التي يشهدها الشرق الأوسط، ولقد بات هذا التأثير ملموساً في الاتفاق الأميركي - التركي، على موقف واحد من بعض عناوين الصراع الدائر في سوريا والعراق، كما في إرسال قوات عسكرية أميركية - ولو ضئيلة - إلى البلدين، وفي القصف الجوي الذي تقوم به طائرات الحلف في سوريا والعراق واليمن، وخاصة في الاتفاق بين واشنطن وموسكو على تأجيل البت في مصير الحكم السوري بانتظار انتهاء عملية تصفية «داعش»، الذي يدل على أن الرئيس الأميركي تبنى سياسة الرئيس السابق أوباما في الشرق الأوسط، ولكن بصيغة وطاقة جديدتين.
إن تركيز واشنطن وموسكو على أولوية تصفية «داعش» سوف يعجل ويسهل في تسوية سياسية ما في سوريا، ولكن ماذا بشأن العراق واليمن وليبيا؟ ماذا بشأن إيران وطموحاتها في المنطقة؟ ماذا بشأن إسرائيل وحل الدولتين؟
إننا ما زلنا عند بداية التكوينات الجديدة في العلاقات بين الدول الكبرى وفي استراتيجياتها الشرق أوسطية، والعربية - الإسلامية... ومن يتأمل في مناخات التغيير التي تعيشها الدول الكبرى وفي العوامل التي تحرك العالم في هذا العصر الإلكتروني الجديد، لا يسعه سوى الشك في أن السلام والاستقرار سوف يتحققان قريباً في الشرق الأوسط.