جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

عن «جد» أو عن «حظ»

«من جد وجد» مقولة نسمعها باستمرار، وتتربى الأجيال عليها، فبعضهم يأخذون بها ويجدّون ليجدوا النجاح لاحقاً، ولكن البعض الآخر يجدّون ليجدوا أنفسهم يراوحون مكانهم.
وهنا نتساءل: هل هو «الجد» أم أنها ببساطة لعبة حظ؟
أعتقد أن الحظ يلعب دوراً مهماً في الحياة، وهناك عدة أدلة على ذلك. في مترو الأنفاق تجد أحياناً فنانين وعازفين ورسامين يتفوقون بموهبتهم على أهم الأسماء التي ترقص على ساحة الفن، وتتراقص على وقع المال الذي يدرُّه الفن لبعض مَن لا يفقهون في الفن شيئاً، وقد يكون الخالق وهَبَهم الحظ، ولكن لم يهِبْهم الموهبة.
في مرة من المرات، كنت أتمشى بمحاذاة نهر التيمس في لندن، حيث تنتشر المقاهي، وترى أجمل الفنون التي تجاور الـ«تايت غاليري»، وتعرض فنوناً ولوحات فنانين كثيرين، بعضهم يستحق هذه المساحة من العرض والبعض الآخر شاء القدر أن يجمعهم في المكان والزمان المناسبين، ليرسموا لأسمائهم الشهرة والثراء.
في تلك المرة، شاهَدْتُ موهبةً رائعة؛ رساماً يعتمد على الفنِّ ثلاثي الأبعاد، لا يملك إلا طباشير بألوان مختلفة، لا يملك حتى قطعة من القماش ليرسم عليها، فكل ما يملكه ليفجِّر موهبته أرضية الرصيف، وموهبة ربانية لم تكتمل، لأنها لم تكن مدعومة بالحظ.
بدأ الرسام يحوِّل الأرض إلى فجوة من خلال اللعب على الألوان والخدع البصرية، وبعد نحو الساعة حوَّل تلك المساحة المجانية في الهواء الطلق إلى لوحة مبهرة، ومهيبة بالوقت ذاته، لأن الفجوة اتسعت، واستطاع الفنان أن يزلزل الأرض بواسطة طبشورة، وموهبة دفينة لا تدر عليه إلا بعض النقود النحاسية يضعها المارة في وعاء صغير يوضَع إلى جانب اللوحة المتسكعة مع صاحبها على قارعة الطريق، وبعد انتهائه من رسمها، يتركها وراءه ويمشي ليغسلها الشتاء ويمحو أثرها.
وهذا الفنان ليس هو الوحيد الموهوب والمحروم من الحظ، ففي منطقة كوفنت غاردن السياحية التي تنتشر فيها المسارح يتجمهر عدد هائل من الفنانين الذين يبهرونك بمواهبهم الخارقة؛ إن كان من خلال تأدية الألعاب البهلوانية المحترفة أو العزف على القطع الموسيقية المعقدة أو اللعب على البصر، من خلال إبهار المارّة، والإيحاء لهم بأنهم يجلسون على كرسي من دون أرجل... المواهب في الطرقات وفي الأنفاق المطمورة كثيرة، لا يلاحظها إلا قلة قليلة، لأن الأغلبية من المارة في عجلة من أمرهم.
وأعتقد أن اللوم على بقاء تلك المواهب طي الكتمان لا يقع إلا على الحظ غير المكتمل، لأن الموهبة حظ، ولكن ما الفائدة إن لم تكن مُوظَّفَة في مكانها؟!
فكم من مرة نرى مواهب يؤديها أصحابها خلال برامج المسابقات الفنية، وتكون ردة فعل الجمهور والمتفرجين في منازلهم ولجنة الحكم:
«موهبة رائعة ولكنها غير مرغوبة»، بمعنى آخر، هناك من هم بلا موهبة ولكنهم ناجحون يغنون من دون صوت، في حين أن غيرهم يملكون الصوت وليس لديهم من يسمع.
هذا الأمر ينطبق على أشياء كثيرة في الحياة، وليست الموهبة الفنية هي المثال الوحيد عليها. فهناك كتاب موهوبون لا يقرأ لهم أحد، في حين يُبتلى المثقفون بقراءة طلاسم مفكرين لا نفهم فيما يفكرون.
الحقيقة وبصراحة، الحظ يلعب دوره، فالجد والكد على صقل الموهبة مهم جداً، ولكن هناك قوة خفية ترفع البعض إلى أرقى المنصات، ونسبة الجد تختلف أيضاً، فهناك من يتعب للوصول إلى ما هو عليه والبعض الآخر تأتيه الفرص من حيث لا يدري.
هذه لعبة القدر، وهذا هو الحظ إن شئنا أم أبينا، ويبقى هناك نوعان من الفن؛ الفن المقدَّر المعروض على جدران المعارض، والآخر يتسكع على مداخلها... وهذه هي ترجمة عبارة «سخرية القدر».