يلقي إخلاء حلب بظلاله مجددًا على ضمير العالم بشأن الأزمة السورية الراهنة. فلقد غمرت شاشات التلفاز وتغريدات «تويتر» حول العالم صور المدنيين الذين يختارون بين الطرد من منازلهم وبين الإبادة المحققة. ولكن على الرغم من هذا الاهتمام الشامل، فعلى نحو ما يبدو أن الحقيقة قد تم إسكاتها.
لا يتعلق الأمر في حلب بإجلاء السكان من مجتمعاتهم من الخطر الداهم إلى الملاجئ الآمنة، بل إنه يتعلق بالنزوح القسري للمدنيين من منازلهم. وذكرت تقارير الأمم المتحدة إطلاق النار العشوائي على المدنيين المجبرين على مغادرة منازلهم من قبل قوات النظام والميليشيات الأجنبية الموالية لهم. ولا يمكن اعتبار هذا إجلاءً للسكان، بل إنها عملية تطهير عرقي.
إن ما نشهده هو تحقيق الديكتاتور السوري لهدفه الأول: القضاء التام على المعارضة السورية، والهلاك التام للثورة السورية. وسقوط حلب في أيدي نظام الأسد له مبلغه من الأهمية بالنسبة للديكتاتور السوري. على مدى أربع سنوات كانت المدينة كمثل بقعة العار السوداء بالنسبة لشرعية نظام الأسد المتهالك. ونتيجة لذلك، تحملت المدينة المنكوبة وطأة هجمات القوات العسكرية الموالية للنظام أثناء العمل على إبادة السكان واستئصال شأفتهم.
ومنذ انتهاء عملية الإجلاء، خلت شاشات التلفاز لدينا مرة أخرى من الحديث عن سوريا. ولكنه من المحتم على وسائل الإعلام أن تخبر العالم بأن اللاجئين، على الرغم من نزوحهم، لا يزالون في أعظم المخاطر التي يشكلها عليهم نظام الأسد. أين يقيمون؟ وما هي الحماية المتوفرة للمدنيين عندما يصلون إلى مدينة إدلب في منتصف الشتاء القارس؟ وهل الأطباء الذين كانوا يعملون في المستشفيات التي جرى قصفها آمنون؟ وهل الفتاة الصغيرة التي خلعت تغريداتها قلوبنا لا تزال على قيد الحياة؟ ربما قررت وسائل الإعلام أنه من غير المستساغ تشويه أيام الأعياد والفرحة لدينا بنشر المعاناة المستمرة للشعب السوري التي نحن، أي العالم بأسره، قد فشلنا في منعها؟ أو ربما وهو الأسوأ، أنه من دون القوافل المثيرة للمشاعر فإن الإبادة الجماعية اليومية لا تستحق النشر؟
اسألوا أنفسكم لماذا يريد بشار الأسد إرسال عشرات الآلاف من المدنيين خارج حلب؟ ولماذا يريد نقلهم إلى إدلب؟ لقد تم تطهير حلب من المدنيين ومن قوات المعارضة السورية بسبب انتماءاتهم السياسية - ورغبتهم في التغيير في سوريا ووضع نهاية لطغيان الأسد ونظامه من خلال الثورة السلمية.
دعونا لا نقول إن التقارير الإخبارية العالمية حول عملية إخلاء حلب لم تكن معركة من معارك الدعاية الدولية. ففي مجلس الأمن، عرض بشار الجعفري، مندوب النظام السوري، صورة من شهر يونيو (حزيران) لقوات الحشد الشعبي العراقية التي تحرر مدينة الفلوجة كدليل على إنسانية النظام السوري في حلب. ولكن التغطية الإعلامية لهذه القصة كانت ضعيفة بشكل مخيب جدًا للآمال - لماذا لم تركز وسائل الإعلام العالمية على هذه المحاولة السافرة لنشر الأخبار الوهمية أمام المجتمع الدولي؟ وما الذي سوف يحدث الآن؟ سوف يحول نظام الأسد، وعلى الأرجح بدعم مباشر من روسيا، أسلحته بصورة تدريجية نحو المناطق السورية الأخرى التي لا تزال تحمل جذوة الثورة المشتعلة. وقد يبدأ السباق نحو مدينة الرقة بشكل جدي مع اعتراف الأسد وبوتين بأن المحاولة الحقيقية لهزيمة «داعش» سوف توفر الفوز الحقيقي للعلاقات العامة الدولية في نهاية المطاف: تعزيز خطاب الرئيس الأسد بأنه على رأس الحكومة التي تحارب الإرهاب، وإعادة صياغة الجغرافيا السياسية الروسية بأنها سياسة التحرير، وتقويض التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وإسكات الأصوات الداعية إلى التغيير في سوريا إلى الأبد.
وفي حين أن الأسد يعرض صورة الجماعات المتطرفة العنيفة فإنه يستفيد وبشكل مباشر من المياه الموحلة التي تعمل فيها تلك الجماعات. والقتال ضد «داعش» على وجه خاص يبرر الطائرات العسكرية التي ترتع في شماء سوريا، ولكنها لا تستهدف المتطرفين الحقيقيين الموجودين على الأرض. وفي واقع الأمر، فقد عرف عن الأسد إطلاقه لسراح سجناء «داعش» لديه - حيث إن تمردهم البغيض يضفي الشرعية المطلوبة على اعتداءات النظام ويسمح بالتعتيم الواجب على النيات الحقيقية للنظام السوري الحاكم.
علاوة على ذلك، كانت الوحشية المفرطة من جانب نظام الأسد للشعب السوري هي عنصر التجنيد الرئيسي ومنذ فترة طويلة لجبهة فتح الشام (المعروفة فيما سبق باسم جبهة النصرة) وغيرها من الجماعات المتطرفة، بما في ذلك «داعش». ومن شأن التطهير العرقي في حلب أن يحفز نيات التطرف لدى الأفراد الذين نزحوا قسرًا من المدينة. وتعمل الجماعات المتشددة داخل مدينة إدلب، ولقد ألقى الأسد بالمدنيين ومقاتلي المعارضة إلى منطقة من المرجح أن يُجبروا فيها على الانضمام إلى إحدى الجماعات الإرهابية أو يتعرضوا بالفعل إلى الفكر المتطرف العنيف. وبهذه الطريقة، لم تكن عملية إخلاء حلب سوى تمهيد المجال لإعدام السواد الأعظم من الشعب السوري. ومن شأن التطهير العرقي في حلب أيضًا أن يغذي الخطاب العنيف لدى الجماعات الإرهابية حول العالم والتي سوف تستخدمه في زيادة نزعات التطرف لدى الأفراد الذين يرون أن إخوانهم وأخواتهم من المسلمين يتعرضون للهجوم من جانب النظام السوري الحاكم.
ما يجب ألا يغيب عن مناقشاتنا هو دور الأمم المتحدة في سقوط حلب. وكما قالت المبعوثة الأميركية لدى الأمم المتحدة بكل صواب: «سوف تنضم حلب إلى قائمة الأحداث في تاريخ العالم التي تعرف الشر الحديث، وصمة العار التي تلوث ضميرنا لعقود قادمة، حلبجة، ورواندا، وسربرنيتسا، والآن حلب». ولكن ما الذي فعلته الأمم المتحدة لوقف هذه المأساة؟ لقد طلب الإذن من المعتدي لإرسال المساعدات: ولم تحصل على ذلك الإذن أبدًا ولم تحاول بما فيه الكفاية. ولقد نشرت المراقبين لرصد عملية الإجلاء: ولكن بعد فوات الأوان. وفشلت المنظمة الدولية في وقف إقلاع المقاتلات التي تنفذ الإبادة الجماعية بحق السكان. وحتى الآن تفشل الأمم المتحدة في الاعتراف بجرائم الحرب الواقعة في حلب.
إن سوريا كانت في حاجة إلى ما كان ينبغي على المجتمع الدولي توفيره لها، ألا وهو وقف إقلاع طائرات سلاح الجو السوري. كذلك فشلت الولايات المتحدة في مفاوضات الاتفاق مع روسيا في الوقت الذي كان الإرهابيون يحتلون الأراضي وكانت المعارضة ترسخ من مواقفها على الأرض. ربما أنها كانت من المهام المستحيلة. ولكن في كلتا الحالتين، فإن الخريطة المتفق عليها تعرض مواقع مناطق المعارضة كافة وتصفها بالمواقع التي يسيطر عليها الإرهابيون، وبالتالي فهي من مواقع الاستهداف المفتوح، أي التفويض المطلق مرة أخرى لبشار الأسد.
وما تكشفه حلب أيضًا هو الهدف الروسي المزعوم بالقضاء على «داعش» في سوريا ليس إلا مجرد كذب رخيص. فلقد ساعدت روسيا نظام بشار الأسد في التركيز على تدمير قوات المعارضة. ولعبت روسيا دور الحارس الأمين والضامن المستمر لبشار الأسد، ولم تفلح كلماتهم وخطاباتهم أبدًا في التعويل على أي معانٍ حقيقية. تملك روسيا النفوذ الكبير لإجبار الأسد تمامًا على وقف الأعمال الوحشية على أرضه، ولكنها تخيرت حتى الآن ألا تفعل. لقد تخيرت ألا تجبر الأسد على الالتزام بالاتفاقيات التي تعقدها بالنيابة عن نظامه. والآن، لا يبدو أنها سوف تفعل أبدًا.
لقد راقب العالم بأسره أعمال التطهير العرقي وهي تجري في سوريا. ويجب أن نشعر بالعار والخجل. لا يزال سكان حلب يعانون يومًا بعد يوم، ولكن هل هناك أحد في العالم يعبأ؟
* مسؤولة في مركز «غلوبال إنفلونس» للسياسات والاستشارات الاستراتيجية
