وعد بلفور لم يكن يوما كلمات على ورق، أو وعدًا أطلقه أحد الساسة البريطانيين، بل اتفاق استعماري إحلالي دعمَ وأسسَ لقيام واحدة من مآسي القرن العشرين، مأساة شعب ما زال يدفع ثمن تواطؤ بعض الدول الاستعمارية عليه.
لقد انضوى الوعد بشكل جلي على تناقض رئيسي يكمن في الدعوة إلى عدم الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية لما سمّاه الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، والذي يتناقض جذريا مع فكرة قيام وطن قومي لليهود وقيام أي عمل يسهّل ذلك، إذ إن قيام هذا الوطن كان يتطلب اقتلاع شعب من أرضه وإحلال آخر، والانتقاص بشكل متعمَّد من حق الشعب الفلسطيني، بصفتهم السكان الأصليين، في العيش بوطنهم وتقرير مصيرهم على أرضهم.
إلا أن هذا التناقض كان محسوما لدى البريطانيين على حساب شعبنا الفلسطيني، فيما كشف عن ذلك اعتراف بلفور في مذكرة نشرتها وزارة الخارجية البريطانية بين 1919- 1939، فيما يتعلق بتوطين اليهود في فلسطين، إذ قال: «ليس في نيّتنا مراعاة حتى مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء كانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيّدة أم سيّئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد، وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون هذه الأرض القديمة».
وتأكيدا على ذلك، جاء في مستهل الوعد أن بريطانيا «ستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق إقامة وطن قومي لليهود»، وقد لقي ذلك صداه العملي على الأرض، من خلال الانتقاص الفعلي لحقوق المدنيين لصالح توطين شعب آخر منذ ذاك التاريخ المشؤوم حتى يومنا هذا، والمساهمة المبكرة جدا في نفي شعبنا من جهة وفي تشكيل أركان دولة الاحتلال وتهيئة النجاحات لحروبها على شعبنا من جهة أخرى، بدءا بالوعد المشؤوم مرورا بالنكبة وحرب 1967.
لم تكن إسرائيل ستتمكن وحدها من السيطرة والهيمنة على أرض فلسطين وزرع نفسها فيها من دون دعم بريطانيا والمجتمع الدولي للمشروع الإحلالي، ومنحه الحصانة من المساءلة، فقد منحت بريطانيا فلسطين لليهود مجانًا، ودعمها لوعد بلفور كان الحلقة الأولى المعلنة من أجل بلورة وتكريس الاحتلال لفلسطين.
وبدلا من أن تضطلع بريطانيا بمسؤوليتها الأخلاقية والقانونية والسياسية في الاعتذار لشعب فلسطين عن المأساة السياسية والإنسانية التي ألحقتها به، سيقوم بعض شخصياتها بالاحتفاء بالوعد (أو إحياء ذكراه)، كما أكدت ذلك رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في خطابها للجالية اليهودية البريطانية في سبتمبر (أيلول) 2016، مشددة على دعم بريطانيا لوعدها الذي وقعه آنذاك وزير خارجيتها المحافظ آرثر جيمس بلفور، بالإضافة إلى تصريحات وزير شؤون الشرق الأوسط توباياس إلوود حول إحياء الوعد العام الماضي، وغيرهما.
لقد عانى الملايين من أبناء شعبنا الفلسطيني بسبب هذا الوعد، ولحقتهم أضرار وخسائر في الأرواح والممتلكات لا يعوض جزء منها ولا يُقدّر بالمال، والجزء الآخر لن يعيده الزمن، إلاّ أن الإصرار على إحياء ذكراه الأليمة بمزيد من الفرح والانتصار، لهو مضاعفة لتلك المعاناة وإهانة لقيم العدالة، واحتفال علني بالظلم وعار الاستعمار في العصر الحديث.
مائة عام تمر اليوم على شعبنا، ممن بقي منه في وطنه ووطن أجداده، وممن هُجِّر قسرا وتشتت في بقاع الأرض ومنافيها، وممن ذاق عذابات اللجوء والضيم المتكرر في المخيمات. وما زالت تمر هذه الذكرى المئوية في أذهان الفلسطينيين في كل ساعة وكل يوم تُمارس فيه عمليات التطهير العرقي بحقه، وكل يوم يُقتلع فيه شجر الزيتون، وتُهدم فيه المنازل، ويُشرّد فيه المئات قسرا لصالح الاستيطان وإحلال عدد جديد من المستوطنين، في كل يوم يُعدم فيه الفلسطينيون، وتُهجّر فيه العائلات من مخيمات اللجوء مرة تلو الأخرى لمحو الهوية وإلغاء الوجود. وتمر أيضا مائة عام على بريطانيا، ودول العالم التي طورت قوانينها وتشريعاتها ومنظومتها الإنسانية خلال هذا القرن لتبلغ ما بلغته في تحقيق مبادئ حقوق الإنسان وقيم العدالة الإنسانية!
وفي هذه الذكرى وكل ذكرى، لأبناء شعبنا وقيادته قول وفعل، يدفعه حراك شعبي وسياسي ودبلوماسي وقانوني متكامل لمحاسبة الاحتلال وداعميه، وملاحقة كل من ساهم في تكريس مأساته ومعاناته، وهو يقود الحملات الدولية الشعبية لدفع بريطانيا للاعتذار والانتصاف للضحايا، يرافقه جهد رسمي فلسطيني اخترق الحصن الدولي وحقق نجاحات كبيرة في تعرية الاحتلال وخروقاته في المنابر والهيئات الدولية، ويتبعه استكمال للجهود والمشاورات مع الأشقاء العرب وأصدقائنا في العالم من أجل قرار إدانة ووقف الاستيطان أمام مجلس الأمن، والتأثير عليه للاعتراف بدولة فلسطين كاملة العضوية، وإنهاء الاحتلال.
إن هذا العام الذي يدشّن لمائة عام على وعد بلفور المشؤوم، وسبعين عاما على نكبته، وخمسين عاما على الاحتلال، هو من جديد عام استحقاق عالمي وامتحان أخلاقي لقضية تمثل معيارًا رئيسيًا لقيم العدالة الإنسانية، وهو مفصل يضع الإرادة الجمعية الدولية على المحك. لكنه يشكل فرصة تاريخية أيضا لبريطانيا ولغيرها من أعضاء المجتمع الدولي لتصحيح هذا الخطأ التاريخي، والانحياز إلى الحق في تقرير مصير الشعوب ضد الاستعمار والعسكرة والقمع والظلم.
إن شعبنا يتطلع إلى أن تقوم بريطانيا بما يترتب عليها من واجب أخلاقي في الحيلولة دون المزيد من تورط دولة الاحتلال في مشروعها الاستعماري العنصري، وأن تقوم بتصويب مواقفها نحو رفع الحصانة عن إسرائيل ومحاسبتها وجعلها تدفع ثمن جرائمها واحتلالها واستيطانها، ودعم المبادرات والجهود الفلسطينية في مجلس الأمن والهيئات الدولية، والاعتذار الرسمي لشعبنا والانتصاف لضحاياه، والاحتفال العام المقبل بإنهاء الاحتلال، وتجسيد سيادة واستقلال فلسطين، بدلا من الاحتفاء بإطالة أمده وتثبيته على حساب حقوق شعبنا.
ولكي تكفّر بريطانيا عن ذنبها في وعد بلفور، فالمطلوب منها الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967 وعاصمتها القدس، كأحد الشروط لحماية حل الدولتين التي تنادي بتحقيقه، وأن تطلق وعدا جديدا للشعب الفلسطيني على أن تساعده على أن يعيش حرا في وطنه القومي.
* أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
TT
كيف يمكن لبريطانيا أن تكفّر عن وعد بلفور؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة