نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

قصة مدينتين

المعني هنا ليس لندن وباريس، وفق رواية تشارلز ديكنز الشهيرة، بل بيروت وحلب.
ولبيروت قصة مع الحروب يستحسن استرجاعها ونحن بصدد قصة جديدة تكتب.. هي حلب.
ولو قُرئت دروس بيروت مع الحروب وخلاصاتها لكان مفيدًا الاسترشاد بها لمعرفة مصير حلب.
قصة بيروت باختصار شديد أنها مدينة حوربت وحاربت، ولم تحسم أي حرب مصيرها، ورغم أنها حوربت بقوى أكثر قدرة منها، فإنها في نهاية المطاف استقرت على صيغة فرضت نفسها على لبنان واللبنانيين، وبطل هذه الصيغة هو شعب لبنان الذي يحب الانفتاح على الآخرين، ولكنه لم يقبل سيطرتهم عليه. وبالقياس مع المحيط، فإن لبنان بكل مخاوفه واحتمالاته، وبكل مكوناته البشرية والاجتماعية، لا يزال أفضل بكثير من جيرانه الذين أعطاهم كل شيء إيجابي لديه، وأخذ منهم كل شيء سلبي صُدِّر إليه.
الذي هزم إسرائيل وأخرجها من لبنان هي بيروت، المجمع لكل الطوائف، فبيروت نموذج الصيغة اللبنانية التي قررت بذكاء ودهاء تكليف ميليشيا حزب الله، بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لبعض أرضها، ووقفت وراء الميليشيا مما أدى في نهاية المطاف إلى تنظيف جغرافيتها من الاحتلال الإسرائيلي، وتموضع أهلها كل في المكان الذي يأمن فيه، ويمارس حياته وتطلعاته عليه، وإذا كان يؤخذ على لبنان أنه لم يستطع انتخاب رئيس له بفعل تدخلات خارجية في الأساس، فإنه سجل في المقابل أن قوة المجتمع والحياة والصيغة أمّنت لهذا البلد قدرة على المواصلة ككيان ومجتمع.
ومن هذا الواقع، أُحاكم ما يجري الآن في حلب، المدينة التاريخية ذات السمات الحضارية المميزة، والموقع الجغرافي المميز أكثر.
والذي أقترح أن يكون مشتركًا بين المدينتين المختلفتين في أمور كثيرة، ومنها التركيبة الطائفية والاجتماعية، هو الخلاصات الأخيرة للحرب؛ ففي حلب التي تكتب فصلاً من فصول تاريخها الطويل، بدأت حرب سيطرة وصفت بتعجل بالمصيرية أو الفاصلة أو الحاسمة، وهذه أوصاف كانت تقال في جميع فصول حروب بيروت، وأقول متعجلة لأن الذي يحكم المدن هم أهلها، والذي يقرر شكل الحكم في بلادها الأوسع هم الناس أيضًا، فأي مستقبل للتحالف الروسي الإيراني في حلب وسوريا، وأي جدوى من استثمار هذه الحرب في تشكيل المستقبل، فالروس يظلون في ذاكرة الحلبيين والسوريين مسؤولين بنسبة عالية عن كوارث الحرب، وإيران التي تحشد «لحسم المعركة الفاصلة» كيف ستستفيد من بلد سال من أجساد أبنائه دم كثير، ولم تكن إيران مجرد داعم لفريق دون آخر، بل مشارك في الحرب بكل فصولها وتفاصيلها.
أما النظام الذي يشكل واجهة للحلف البائس، فإن كان قد وجد تفسيرات لكلفة بقائه من عهد حافظ الأسد إلى ابنه بشار، فأي تبرير يمكن أن يساق لاستنساخ حكم صارت نسبة الأموات في شعبه والمهجرين والمهاجرين أعلى بكثير من نسبة الأحياء والباقين على أرضهم؟
أستطيع قراءة اليوم التالي لـ«المعركة الفاصلة»، سواء انتصر فيها الحلف الروسي الإيراني أم لم ينتصر، ذلك بعد أن يحيل المدينة قاعًا صفصفًا، حيث يبدأ فصل جديد من مقاومة ذات صدقية عالية، تحت عنوان «ماذا يفعل الغرباء بنا؟».
وستبقى حلب، المدمر منها والذي نجا، مدينة أهلها، وشقيقة مدائن سوريا جميعًا، والشريكة في تقرير مصير الوطن كله.
في اليوم التالي هذا لحسم مفترض، سيكتشف من خسروا كثيرًا وراء وَهْم السيطرة والنفوذ أن استثمارهم الدموي والبائس والمكلف كان خاسرًا في النتيجة.