الشرق الأوسط
TT

الحرب العالمية الباردة الجديدة

يبدو أننا نواجه حربا عالمية باردة جديدة، بشكل أو بآخر، فثمة التقاء جديد للقوى الدولية بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في أوروبا والعالم الهابطة من نشوة النظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد مع بوش الأب، وبين روسيا الاتحادية الصاعدة للعودة بقوة للتأثير الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

تشهد هذه المراحل الانتقالية بين القوى الدولية عادة اضطرابات كبرى وصراعات دموية، وتجاذبات استخباراتية، وحروبا إقليمية. في الاضطرابات الكبرى فإن منطقة الشرق الأوسط تحظى بنصيب الأسد منها، وبخاصة في دول الانتفاضات العربية من تونس لمصر ومن ليبيا لليمن، وفي الصراعات الدموية فإننا نرقب ما يجري في ليبيا مثلا وفي الدول المثيلة ذات الانتشار الواسع لتنظيمات العنف الديني، وفي التجاذبات الاستخباراتية لا يمكن تفويت خبر طرد روسيا لدبلوماسي أميركي الأسبوع الماضي، الذي ستقابله واشنطن بفعل مماثل من دون شك، وهو ما يجب أن يعيد النظر في قضية تفجيرات بوسطن وما تنطوي عليه من خبايا لم تتضح أبعادها بعد، ويبدو أن مشاغبات كوريا الشمالية الأخيرة ليست بمنأى عن هذا المشهد الجديد.

وفي الحروب الإقليمية تقف سوريا على رأس المشهد حيث يبدو أن ما يجري في سوريا اليوم ومع كل الخسائر الفادحة والمأساة القائمة لا يعدو أن يكون معركة في حرب إقليمية تدور رحاها بين الجمهورية الإسلامية في إيران والدول العربية، وحرب عالمية تنعقد غيومها بين القوى العظمى لإعادة ترتيب التوازنات الدولية.

إن كل المرحلة الماضية تظهر أن عجز القوى الإقليمية والدولية عن الحسم وافتعال المشكلات الكبرى كتهديدات كوريا الشمالية ونحوها ليس سوى تشغيبات في حرب باردة جديدة.

إن إيران التي تمر بمرحلة انتخابات صورية أثبتت في المعركة السورية أنها في حربها الإقليمية ضد العرب لن تدع أي سلاح تستطيع استخدامه إلا استخدمته، إنْ على مستوى السياسة الدولية حيث تريد حماية مشروعها النووي وإنْ على مستوى النفوذ والهيمنة عبر جسر الطائفية حيث تلقي بأوراقها واحدة تلو الأخرى من العراق الذي باتت الحكومة فيه تكشر عن أنياب طائفية وأخذت التفجيرات تعود للشوارع من جديد ليس في المدن الكبرى فحسب بل وصل الأمر لمناطق الاحتجاجات السنية كالتفجير الذي استهدف مسجدا في مدينة بعقوبة قبل يومين، إلى لبنان حزب الله الذي أصبحت رائحته الطائفية تزكم الأنوف وهو يغوص يوما بعد يوم في حرب طائفية مكشوفة ضد الشعب السوري.

لقد أصبحت تجارة السلاح رائجة، وصار خبراء الأسلحة ووسطاؤها وجوها إعلامية، وصار حديث السلاح نوعيا وكميا منتشرا ومتفشيا، وهذه هي أجواء الحروب الباردة والساخنة على حد سواء.

إن الضربة الإسرائيلية لبعض مخازن أسلحة الأسد في دمشق، وزيارة نتنياهو للصين بعد الضربة بساعات التي لم يكن لها أثر حقيقي نظرا لابتعاد الصين تدريجيا عن المعركة الإقليمية، ولكن زيارته لروسيا وتأكيد الرئيس الروسي بوتين على تزويد سوريا بأسلحة نوعية، تشير مجتمعة إلى عزم روسي حازم للعودة للتأثير في المشهد الدولي وبكل قوة. إن موسكو لن ترضى بتراجع سهل بعد أن شعرت بعودتها قبلة دولية لعواصم العالم لإدارة الصراعات الدولية انطلاقا من الأزمة السورية.

موقف الجمهورية الإسلامية في إيران تجاه الأزمة السورية فضح الكثير من الشعارات التي كانت ترفعها لاستقطاب حركات الإسلام السياسي كقضية فلسطين أو لاستقطاب بعض مغفلي القوميين العرب كالمقاومة، وهي كانت مفضوحة من قبل لدى بعض الكتّاب والمثقفين العرب ولكن صوتهم لم يكن يصل كما ينبغي وأفكارهم كان يتم اتهامها من قبل حلفاء إيران بغوغائية دينية وقومية معروفة.

كنت أحسب كغيري أن استخدام القضية الفلسطينية كوسيلة آيديولوجية للتغطية على مشكلات إيران الداخلية وكذلك للتوسع والنفوذ في المنطقة العربية هو أمر حدث بعد الثورة في إيران وبعدما أصبح بعض رجال الدين هناك هم قادة البلاد وصناع سياساتها ورعاة طموحاتها ولكنني اكتشفت وأنا أقرأ مذكرات الرئيس الإيراني الأسبق والمرشح الحالي هاشمي رفسنجاني «حياتي» أن هذه الحيلة أمر قديم.

يذكر رفسنجاني وهو يتحدث عن تأسيس «مكتب تشيع» الذي كان ضمن معارضة رجال الدين لنظام الشاه قائلا «لقد استفدنا من هذه الوسيلة في طرح القضية الفلسطينية، التي كانت منسية، وضمنا، لنتمكن عبر هذا الطريق من إيجاد علاقات مع الخارج وتقويتها» فهي قضية تبنوها لغرضين حسب كلامه «الاستفادة» منها و«إيجاد علاقات مع الخارج» بمعنى أنها مجرد وسيلة تم تبنيها لتقوية موقف رجال الدين المعارضين لمواجهة النظام في الداخل.

ثم يؤكد الأمر مرة أخرى وهو يتحدث عن الخميني بأنه «كان يرغب منذ السنوات الأولى في طرح موضوع القضية الفلسطينية.. ورغبته بأن تمتد المعركة إلى المنطقة ومن ثم إلى العالم»، فهي إذن سلاح في معركة داخلية أراد الخميني توسيعها عبر القضية الفلسطينية لكي تمتد إلى المنطقة وإلى العالم أجمع.

هذا العمق التاريخي لسياسات الجمهورية الإسلامية مفيد في تسليط الضوء على هذه السياسات وأهدافها العميقة والمستمرة حتى اليوم، فاستخدام الدين في خدمة السياسة هو أمر ثابت لديها، واستغلال القضية الفلسطينية لخداع عامة المسلمين مثل ذلك، وخداع القوميين العرب بشعار المقاومة يمر من ذات الطريق، وأخيرا، إشهارها لشعارها الأخطر وهو شعار الطائفية للتدخل في الأزمة السورية.

إن هذه السياسات الإيرانية تعبّر عن استراتيجية قديمة وثابتة ومستقرة وليست نزوات رئيس ولا رغبات مرشد، ومن هنا فإن نتائج الانتخابات الإيرانية الصورية أيا كان الفائز فيها لن تغير كثيرا في هذه الاستراتيجية إلا بقدر الفارق بين عصا غليظة خشنة وأخرى ملساء.

في رسم الاستراتيجيات وصناعة الخطط طويلة الأمد وإدارة الصراعات فإن كل أزمة فرصة وكل حدث سلاح وكل موقف رصيد، وإيران اليوم لم تعد تكتفي برفع «الطائفية» شعارا فقط بل سلاحا يقتل ويفني ويدمر، ويشارك بالخبرة والسلاح وبالعسكر والعتاد، وبالسياسات كالعراق، وبتحريض الأحزاب كحزب الله وكتائب الفضل بن العباس. وهي بعلاقاتها الدائمة والمعقدة مع «القاعدة» تصنع الشيء ونقيضه.

ختاما، فإن أحدا لا يرغب في رؤية حرب باردة جديدة تصرف البشرية عن التطوير والتنمية إلى سباقات التسلح وصناعة الأزمات وترويج الحروب، وما لم تحل الأزمة السورية سريعا فإننا سنواجه هذا المصير.