في تطور كبير في تاريخ الديمقراطية داخل العالم الإسلامي، أعلن الحزب الديمقراطي الإسلامي الناجح في تونس، الأسبوع الماضي، انفصال جناحه السياسي عن الحركة الاجتماعية - الدينية التابعة له. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة لا تعد تحركًا باتجاه العلمانية بالمعنى المتعارف عليه، فإنها تبقى خطوة في اتجاه تقسيم العالم إلى صعيدين: سياسي ودعوي.
ويبدو أن الخطوة تعكس في جزء منها تفكيرًا سياسيًا حكيمًا، ذلك أنه من خلال إعادة تسمية نفسها «الحزب الديمقراطي الإسلامي» على غرار «الديمقراطي المسيحي» في أوروبا، فإن حركة النهضة من المحتمل أن تنجح من خلال ذلك في توسيع قاعدتها، مع التمييز بين نفسها وبين المتطرفين. ومع هذا، فإن الدلالة الأعمق لهذا القرار تكمن في تمييز النشاط السياسي عن هدف الحياة الاجتماعية.
وكي ندرك سر الأهمية البالغة لهذا الفصل بين الحزب والحركة، ينبغي أن نبدأ من تاريخ الحركة الإسلامية الديمقراطية، فحتى الثلاثاء قبل الماضي، كان الاسم الرسمي للتنظيم «حزب وحركة النهضة».
وقد عكس الاسم ذاته الماضي المعقد للتنظيم، الذي بدأ عام 1984 تحت اسم «حركة الاتجاه الإسلامي»، ثم أعاد تسمية نفسه «حركة النهضة» عام 1989. أما العنصر المشترك بين هذه الأسماء فتمثل في فكرة أنها تشير ليس إلى حزب سياسي فحسب، وإنما إلى تطلعات أكبر وأوسع.
وعندما أضافت الحركة التونسية كلمة «حزب» إلى اسمها في أعقاب «الربيع العربي»، كانت تشير بذلك إلى استعدادها خوض معترك السياسة القائم على الانتخابات، لكنه في الوقت ذاته كانت تبعث برسالة مفادها أن مهمتها كحركة تدعوها الآن لدخول الحقل السياسي.
ومع هذا، أدرك أعضاء «حركة النهضة» أن لفظي «حزب» و«حركة» لا يشيران إلى الأمر ذاته. وخلال محادثات أجريتها مع أعضاء الحزب خلال زيارات عدة لتونس عامي 2013 و2014، سمعت مرارًا من يصفون أنفسهم كأعضاء «حزب»، وآخرين يصفون أنفسهم كأعضاء «حركة».
ولاحظت أن المنتمين إلى «الحزب» يستمتعون بخوض غمار الحياة السياسية الرسمية القائمة على الانتخابات، ويطمحون إلى جعل الحزب عنصرًا دائمًا في الديمقراطية التونسية الناشئة. على الجانب الآخر، كان لدى أعضاء «الحركة» قناعة بأن هدفهم الحقيقي الهيمنة على المجتمع التونسي، وليس الدولة التونسية، وإقناع الناس بأن يتبعوا النمط الذي يدعون إليه من الإسلام بكامل إرادتهم - نمط يمكن وصفه بأنه يتطلع نحو الأمام ومحافظ دينيًا في الوقت ذاته.
أما فيما يخص الأعضاء العاديين، فيمثل الانفصال الرسمي حاليا بين «الحزب» و«الحركة» تطورًا منطقيًا لأسلوب تفكيرهم، وليس خطوة راديكالية.
فيما يتعلق بأعضاء الحركة، فإنهم ما يزالون متمسكين بنشر أفكارهم الدينية المعتدلة الجذابة لحد ما، عبر العمل الاجتماعي والوعظ. ويحملون بداخلهم شعورًا قويًا بالواجب تجاه اجتذاب الشباب بعيدا عن الأنماط الخطيرة من الراديكالية.
وعلى الرغم من المنطق القائم وراء قرار الفصل والنابع من داخل الحركة، فإنه من المنظور التاريخي تبقى هذه الخطوة بالغة الأهمية، خاصة بالنظر إلى أن «الإخوان المسلمين» الجماعة الأم دوليًا، لم تقر أبدًا مثل هذا التمييز. ويبقى أعضاؤها في معظمهم ملتزمين تجاهها كحركة وكحزب.
ويخلق هذا بدوره مشكلة عندما يكون «الإخوان المسلمون» مشاركين بصورة قانونية في الحياة السياسية، مثلما الحال بالأردن والمغرب، وكذلك عندما يكونون محظورين، مثلما كان الحال وأصبح مجددًا داخل مصر.
ومن خلال فصل السياسة عن الحركة الاجتماعية، تبعث «حركة النهضة» برسالة واضحة مفادها أنها لا تنوي استغلال آلية الدولة في تحقيق أسلمة المجتمع.
من جانبه، لطالما أكد راشد الغنوشي، زعيم الحزب والحركة على حد سواء، أنه ما يزال ملتزمًا بمحاولة إقناع الناس طواعية باتباع رؤيته للإسلام.
في المقابل، ادعى منتقدو الغنوشي و«حركة النهضة» مرارًا أن هذه الرؤية الليبرالية ليست سوى مجرد غطاء، وما يزالون يؤكدون القول ذاته الآن. ومع هذا، فإن الخطوة الأخيرة تمثل دليلاً جديدًا على أن الديمقراطيين الإسلاميين من أعضاء «حركة النهضة» يشكلون الطريق الصحيح. وينبغي للديمقراطيين الإسلاميين الآخرين في المنطقة الانتباه لذلك، مثلما كان ينبغي للإخوان المسلمين في مصر قبل أن يطاح بهم.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT
توجه تونس العلماني حيال هدف روحاني
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة