مسعود أحمد
* مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي
TT

منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حاجة لإعادة ابتكار ذاتها

رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، كما يُذَكِّرنا الفيلسوف الصيني لاو تسو. هذه القاعدة البديهية تصدق الآن على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجه خاص. ففي مواجهة انخفاض تاريخي في أسعار النفط، بدأت المنطقة عملية طويلة وشاقة للتكيف مع هذا الواقع الجديد، بعد طول اعتماد على النفط في تحقيق الرخاء.
فقد هبطت أسعار النفط بنسبة 70 في المائة منذ منتصف 2014 ومن المتوقع أن تظل عند مستوى يقارب الأربعين دولارا للبرميل في 2016. ثم ترتفع إلى 50 دولارا للبرميل بحلول عام 2020. هذا الهبوط الحاد كان تأثيره قاسيا على إيرادات تصدير النفط، التي سجلت هبوطا حادا بمقدار 390 مليار دولار في العام الماضي – من 886 مليار دولار في 2014 إلى 498 مليار دولار في 2015 – ومن المتوقع أن تهبط بمقدار 140 مليار دولار أخرى في 2016. وينشئ انخفاض أسعار النفط مشكلات أيضا أمام كثير من البلدان المستوردة للنفط التي تواجه التداعيات الآتية من بلدان الجوار المصدرة للنفط، في وقت تسعى فيه بدورها إلى مواجهة التحديات التي تفرضها الصراعات وتدفقات اللاجئين.
ومن المشجع أن صناع السياسات في مختلف أنحاء المنطقة، استجابوا لإلحاح الموقف بعدد من التحركات الجريئة على صعيد السياسات. فبدأ مجلس التعاون الخليجي والجزائر وإيران إصلاح نظام الدعم القائم منذ وقت طويل. واستحدثت كل من الإمارات العربية المتحدة وعمان آلية للتسعير التلقائي تضمن توافق الأسعار المحلية مع المعايير السعرية العالمية. وأعلنت المملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق، بما في ذلك دعم الطاقة والمياه، كما تخطط لخصخصة مجموعة متنوعة من أصول الدولة، وكل ذلك لإحداث توسع كبير في الإيرادات غير النفطية، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد أكثر تنوعا بكثير مقارنة بحالته الراهنة.
إنه تقدم مشجع، ولكن البيئة الجديدة لأسعار النفط تدعو لإجراءات أكثر وأكبر على صعيد السياسات. ففي كثير من البلدان المصدرة للنفط، هناك حيز لتخفيض الإنفاق العام الذي تضخم في فترة ارتفاع أسعار النفط، من أجل تعبئة إيرادات جديدة. ففي المتوسط، تنفق دول مجلس التعاون الخليجي على فاتورة أجور القطاع العام أكثر مرتين مما تنفقه الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية الأخرى، كما تنفق على الاستثمارات العامة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي أكثر من إنفاق تلك البلدان بنحو 50 في المائة. ويمكن أن يؤدي تطبيق زيادات أخرى في أسعار الطاقة المحلية، إلى توفير نحو 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وينبغي أن تركز جهود تعبئة الإيرادات على تصميم نظم ضريبية ذات قواعد واسعة. فعلى سبيل المثال، تطبيق ضريبة القيمة المضافة بمعدل 5 في المائة، يمكن أن يحقق إيرادات تبلغ نحو 1.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
ورغم ضرورة هذه التدابير للسيطرة على المالية العامة، فهي تنشئ تحديات أخرى. فانخفاض الإنفاق العام يبطئ التوسع الاقتصادي على المدى القصير. وبينما تشير تنبؤات النمو إلى بعض الارتفاع لدى البلدان المصدرة للنفط في المنطقة، بحيث يصل إلى 3 في المائة هذا العام، نجد أن السبب في ذلك يرجع في معظمه إلى زيادة إنتاج النفط من العراق ومن إيران بعد رفع العقوبات. ومن المتوقع أن يتباطأ النمو في مجلس التعاون الخليجي ليسجل 1.75 في المائة.
كذلك يشير انخفاض الوظائف في القطاع العام إلى انخفاض نمو التوظيف في منطقة تعاني بالفعل من بطالة مرتفعة. ومع نهاية العقد، يُتوقع أن يدخل سوق العمل نحو 10 ملايين نسمة في بلدان المنطقة المصدرة للنفط، منهم 3 ملايين يمكن أن يصبحوا عاطلين إذا ما استمرت السياسات الحالية.
والعلاج الفعال لتراجع حجم القطاع العام هو وجود قطاع خاص أكثر تنوعا وقوة يمكنه توفير فرص العمل الكافية للسكان، الذين تتزايد أعدادهم بسرعة. غير أن ذلك يتطلب إصلاحات بالغة الأهمية، مثل تحسين بيئة الأعمال، وتخفيض فجوة الرواتب بين القطاعين العام والخاص، وزيادة اتساق المهارات التعليمية والمهنية مع احتياجات السوق واتجاهاته العامة.
ومن شأن تحقيق نمو أقوى في البلدان المصدرة للنفط في المنطقة أن يعود بالنفع على جيرانها من البلدان المستوردة. ورغم أن تراجع أسعار النفط أتاح تخفيفا مواتيا لأعباء فواتير الوقود في البلدان المستوردة للنفط، فإن معدل النمو الاقتصادي في هذه البلدان، والمتوقع أن يبلغ 3.75 في المائة هذا العام، لا يزال أقل بكثير من أن يسمح لها بالتصدي لمشكلة البطالة المرتفعة (25 في المائة بين الشباب)، حيث تسعى هذه البلدان جاهدة للتعامل مع التداعيات السلبية الناجمة عن الصراعات – ولا سيما الضغوط الاقتصادية من استضافة اللاجئين (الأردن ولبنان) – بالإضافة إلى تحويلات العاملين في الخارج، والتمويل، والتجارة، والاستثمار بسبب تباطؤ النمو في بلدان الجوار المصدرة للنفط.
وقد أصبحت البلدان المستوردة للنفط حاليا مهيأة لمعالجة هذه التحديات. فقد ساعدتها إصلاحات دعم الطاقة وأسعار النفط المنخفضة على تثبيت مستوى الدين العام، وإيجاد حيز للاستثمار العام الداعم للنمو في مجالات البنية التحتية والصحة والتعليم. لكنها لا تزال بحاجة إلى ضبط أوضاع المالية العامة لضمان قدرتها على الاستمرار في تحمل الدين، وبناء الاحتياطيات الوقائية اللازمة للتعامل مع الصدمات المعاكسة في المستقبل. ومع ذلك، يمكن الآن إجراء أي تخفيضات أخرى في الإنفاق بوتيرة أكثر تدرجا، لاحتواء الأعباء المالية المعوقة للاقتصاد. وفي بعض الحالات، يمكن لزيادة مرونة سعر الصرف أن تكون عنصرا مكملا مفيدا للضبط المالي، لأنها ستعمل على تعزيز القدرة التنافسية وخلق فرص العمل في القطاع الخاص.
وستعمل الإصلاحات الهيكلية الموجهة على إعطاء دفعة الانطلاق للنمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل في البلدان المستوردة للنفط. ويمكن خفض تكلفة مزاولة الأعمال والحد من الاختناقات على جانب العرض عن طريق حماية حقوق المستثمرين، ورفع مستوى الكفاءة والجودة في البنية التحتية، وتنفيذ الإصلاحات التنظيمية. كذلك يمكن لإصلاحات سوق العمل، بما في ذلك تطوير التعليم والتدريب لتلبية احتياجات القطاع الخاص، أن تساهم في تنشيط القطاع الخاص، مما يخفف العبء على الدولة باعتبارها الجهة الرئيسية لتوفير فرص العمل. وستؤدي زيادة الانفتاح التجاري إلى تمكين البلدان من الانضمام إلى سلاسل العرض العالمية في الصناعات التحويلية المنشئة لفرص العمل.
لقد ظل تطوير اقتصادات المنطقة أمرا محبذا لوقت طويل، ولكن توقعات استمرار أسعار النفط المنخفضة حتى نهاية العقد الحالي على الأقل، حولت هذه التطلعات إلى ضرورات. ويمكن أن يكون هذا أمرا إيجابيا، حيث يوفر الزخم اللازم لتطوير النماذج الاقتصادية القديمة التي يمكن أن تخدم مصالح السكان على نحو أكثر تكافؤا – وأكثر استمرارية - لأجيال طويلة قادمة.

* مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي