رداً على مقالة الأسبوع الماضي، كتب لي أحد الزملاء قائلاً: لو صحت الدعوى، لتحقق المراد اليوم. ففي العالم العربي عشرات الآلاف من مطوري البرامج الأكفاء، وثمة آلاف آخرون يتخرجون كل عام، من الكليات المتخصصة في فروع المعلوماتية. ومع هذا، لا نرى التطور الذي تزعمه المقالة. بل ما زالت الغالبية الساحقة من البرامج التي نستخدمها على مستوى الأفراد والشركات والحكومات أجنبية. حتى إذا كان للمطورين المحليين دور، فهو لا يعدو التنسيق والتهيئة، كي تلائم متطلبات البلد. وهذا عمل لا صلة له بالتطوير أو الابتكار.
فإذا كان الآلاف الذين لدينا اليوم لم يصنعوا شيئاً مهماً، فهل مضاعفة الرقم ستصنع التغيير... بعبارة أخرى: هل المشكلة في العدد؟ وهل نقول إنه يجب أن يكون لدينا مليون مطور ومبرمج حتى تتحول المعلوماتية إلى صنعة وطنية؟
رأيي أن هذا السؤال عبثي. لكنه - مع هذا - يلفت أنظارنا لنافذة مهمة، تكشف العوامل التي أدَّت إلى إخفاقنا في الماضي، والتي قد تؤدي إلى تكرار الإخفاق اليوم أو غداً. المسألة قطعاً ليست في العدد، مع أنه مفيد، في الجملة. دعوتنا تدور حول الإبداع والابتكار، وليس زيادة العدد.
ويتَّضح الفرق بين الكثرة والإبداع، من خلال المقارنة بين اقتصاديات الزراعة في الهند ونظيرتها في هولندا. يصل عدد المزارعين في هولندا إلى 660 ألفاً، يقابلهم 152 مليوناً في الهند (230 ضعفاً). وتبلغ قيمة الصادرات الزراعية الهولندية 132 مليار دولار، تقابلها 53 ملياراً في الهند (أقل من النصف). هل تعرف السر في هذا الفارق الكبير؟ السر هو أن هولندا واحدة من الدول العشر الأولى في قائمة الابتكارات التقنية الجديدة. وهي الأكثر إبداعاً في مجال الزراعة.
مرادنا إذن هو إيجاد البيئة الاجتماعية - الثقافية المعززة للإبداع والابتكار، وليس مجرد الزيادة العددية. نحن لا نستهدف تدريب مستعملين للبرامج والأجهزة المستوردة من الخارج، بل مبتكرين ومطورين يبدعون برامج وأجهزة جديدة. لهذا السبب دعوت في مقال الأسبوع الماضي إلى تعليم البرمجة في المرحلة الابتدائية، ثم جعلها إلزامية في المرحلة المتوسطة. ذلك أن الموضوع الذي يشغل ذهن الإنسان عند طفولته، سوف يتحول إلى هواية وشغف وجزء أساسي من حياته اليومية، حينما يكبر. كثير من الأطفال سوف يكتشفون برمجة الألعاب في سن مبكرة، وبعضهم سوف يتَّجه إلى حقول أخرى، مثل الزراعة والهندسة والعلوم الإنسانية، لكنه سيحمل معه القابلية لربط أي من هذه الحقول بحقل المعلوماتية، عندئذ سنرى الدخول السلس للذكاء الاصطناعي في الزراعة والطب والاتصالات والنقل والهندسة... إلخ. العنصر الرئيس في هذه الفكرة إذن هو تعميق انعكاس المعلوماتية في نفس الإنسان وعقله وجعلها جزءاً نشطاً من عالمه.
هذا شيء يختلف عن تعليم الحوسبة في الجامعة، وفق الطريقة التي اعتدناها في معظم الجامعات العربية حتى الآن. تعليمنا الراهن لا يهتم كثيراً بغرس الابتكار، بل يركز على إتقان استعمال الأجهزة والبرامج، ثم الحصول على شهادة جامعية تضمن للطالب وظيفة مريحة في حقل المعلوماتية أو في أي مجال آخر. أي أن الحوسبة جاءت في شكل إضافة إلى معلوماته، وليست كانشغال ذهني وشغف وهواية في حياته اليومية.
في الصورة الأولى نتوقع كثيراً من الإبداع. الأطفال الذين يتعلمون شيئاً، يبدعون فيه مبكراً. بل أدعي أن قابلية الإبداع واكتشاف الجديد لدى الشاب المراهق، أقوى وأكثر احتمالاً من نظيره المتقدم في العمر. والسرّ فيه أن خيال الطفل والشاب المراهق خيال منطلق، لا يتقيد بحدود العقل وقيوده، بخلاف الشخص الناضج الذي – تبعاً لموقعه الاجتماعي وقدراته المادية – يحصر تفكيره في المتعارف والمألوف، إلا في حالات نادرة. لقد بات مسلماً في عالم اليوم أن الخيال الجامح المنطلق، العابر للمعقولات، هو أبو الإبداع وأمه، وأضيف إليه أن زرع بذور الإبداع والابتكار، يبدأ في بواكير الحياة، كي يؤتي ثماره في تواليها.