أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

أينما تطلع آية الله شرقًا لا يلق إلا الفراغ

كثيرا ما تساءل المسؤولون الأجانب الذي عملوا مع إيران منذ استيلاء الملالي على السلطة في البلاد حول من في حقيقة الأمر يملك مقاليد الأمور في طهران.
لاحظ كريس باتن، الذي شغل ذات مرة منصب مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أن المسؤولين الإيرانيين الذين تعامل معهم كانوا في أغلب الأحيان يبدون مثل «الممثلين» الذين يقومون بدور الوزراء في الحكومة.
وعلى مدى عقود، توصل العشرات من المسؤولين من مختلف أنحاء العالم إلى ذات الاستنتاج عقب التعامل المباشر مع المسؤولين في طهران، ومن بينهم رجال يحملون السمة الرفيعة لرئيس الجمهورية. والانطباع المتحقق لدى أولئك القوم هو أن إيران تعمل من خلال حكومتين في آن واحد: إحداهما هي «حكومة الواجهة» المقدمة للعالم الخارجي، والأخرى هي «حكومة الظلال» التي تمتلك السلطات الفعلية والحقيقية.
ولقد تعزز ذلك الانطباع كثيرًا خلال الأسبوع الماضي عندما طار علي أكبر ولايتي، الذي يشغل منصب المستشار الخاص للسياسة الخارجية لدى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، إلى موسكو، فيما وصفه الرجل بنفسه حين قال: «مهمة للشروع في الاستراتيجية الجديدة للجمهورية الإسلامية»، التي وصفت إعلاميا بـ«التطلع شرقا».
كانت رحلة السيد ولايتي إلى موسكو مثيرة للاهتمام لعدد من الأسباب نوجزها فيما يلي:
أولا، جاء ميقات الزيارة الرسمية في أعقاب زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى روما وباريس، تلك التي بعثت برسالة مفادها أن الجمهورية الإسلامية تسعى لتعزيز الروابط الوثيقة مع الديمقراطيات الغربية. ومن المقرر أيضا للسيد روحاني أن يتوجه لزيارة النمسا وبلجيكا في وقت لاحق من هذا الشهر.
كذلك، لم يدع السيد روحاني فرصة إلا واستغلها ليبعث بإشارات ودودة إلى إدارة الرئيس أوباما في واشنطن.
ولقد أشاد روحاني بالرئيس الأميركي واصفا إياه بقوله: «رجل ذكي ومدرك لعواقب الأمور»، ويزعم أنه تربطه بالرجل علاقة «رسائلية» خاصة.
ولقد أشار روحاني إلى العالم اليوم بأنه مثل قرية صغيرة وأميركا هي «زعيم القرية». وبالتالي فمن الأهمية بمكان بالنسبة للجمهورية الإسلامية أن تسعى لإقامة علاقات جيدة مع «الزعيم».
وفي واقع الأمر، فلقد منحت الأوساط السياسية الإيرانية في طهران روحاني وحاشيته لقب «فتيان نيويورك»، وهم الفصيل المتفرع عن النظام الخميني الذي يأمل في مضاهاة الصين الشيوعية تحت حكم دينغ شياو بينغ، من خلال تكوين علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة مع الحفاظ في نفس الوقت على نظام الحزب الواحد الحاكم القمعي في الداخل. وكان الأب الروحي لذلك الفصيل هو الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني، وهو «المفاوض الداهية» الذي فتح أول قناة سرية للاتصالات مع واشنطن في عام 1984، مما أدى بمرور الوقت إلى الكشف عن فضيحة «إيران غيت» في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان.
ومنذ ذلك الحين، تابعت الإدارات الأميركية المتعاقبة ما تحول حتى الآن إلى خرافة كبيرة في الداخل الإيراني: أي مساعدة التيار «المعتدل» بزعامة رفسنجاني على الإطاحة بمعسكر «الصقور» الحاكم الذي يرأسه خامنئي، وإغلاق فصل الثورة الإسلامية من التاريخ الإيراني المعاصر، وتحويل الجمهورية الإسلامية إلى نظام مستبد جديد يُعنى بشؤونه الخاصة من دون الخوض في الكثير من المتاعب مع الولايات المتحدة وحلفائها.
خلال الـ150 عاما الماضية، كانت كيفية تحقيق التوازن ما بين مختلف القوى الخارجية المعادية هي الشغل الشاغل للزعماء في إيران. وفي ذروة الإمبريالية الأوروبية، كانت النخبة الإيرانية منقسمة على ذاتها بين «عشق الإنجليز» و«الولع بالروس»، أو الخيار ما بين «الطاعون» و«الكوليرا».
وفي خمسينات القرن الماضي، ومع غروب شمس الإمبراطورية البريطانية وتحول روسيا إلى الاتحاد السوفياتي، كانت النخبة الإيرانية أيضا منقسمة على ذاتها ما بين موالاة الأميركيين وموالاة الروس.
بدأ محمد مصدق، الذي شغل منصب رئيس الوزراء الإيراني لفترة وجيزة، حياته السياسية مولعًا بالولايات المتحدة، ولكن انتهى به الحال حالمًا بما سماه «التوازن السلبي»، وهو ما يعني بلغة أهل السياسة البقاء على مسافة واحدة من الغرب والشرق على حد سواء.
ولخداع أنصار مصدق، الذين أقام الرجل معهم تحالفًا تكتيكيًا في مواجهة الشاه، رفع آية الله الخميني في ذلك الوقت شعارًا رنانًا يقول: «لا شرقية ولا غربية».
ومن زاوية الممارسة العملية، رغم ذلك، وصم الخميني الولايات المتحدة بأنها العدو الأكثر خطورة على آيديولوجيته الجديدة وواصفًا الاتحاد السوفياتي بالخطر الأقل تهديدًا عليها. وكان السبب في ذلك، وبالنسبة للكثير من الإيرانيين، أن الولايات المتحدة كانت شديدة الجاذبية من المناحي الثقافية، والعلمية، والاقتصادية، وحتى السياسية، في حين كان الاتحاد السوفياتي لا يتمتع بذات الجاذبية في استمالة حتى التيار الشيوعي الإيراني، الذي كان أتباعه في أغلب أمرهم من أنصار ماو، أو تروتسكي، أو كاسترو.
بارك الخميني الهجمات التي نالت من السفارة الأميركية في طهران واحتجاز الرهائن الدبلوماسيين فيها، ولكنه عارض تمامًا اتخاذ نفس الإجراءات المعادية قبالة الاتحاد السوفياتي. ولقد دعا الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف لاعتناق المذهب الشيعي من الإسلام، وأعتقد أن النزعة المعادية للولايات المتحدة كافية تمامًا لتوطيد أواصر العلاقات ما بين موسكو وطهران.
كان خامنئي على بينة من كل ذلك.
وهو السبب وراء سعيه الدؤوب لاقتلاع «فتيان نيويورك» من جذورهم قبل فوات الأوان. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حالما كان «فتيان نيويورك» يطربون ويرقصون على أنغام «الاتفاق النووي» مع أوباما، طار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، وانطلق مباشرة إلى قصر خامنئي، متجاهلاً روحاني ورفسنجاني تمامًا. وكان بعد ذلك الاجتماع، الذي وصفه السيد ولايتي بأنه «بداية عهد جديد»، أن خرج علينا خامنئي بعبارة «التطلع شرقًا» الجديدة.
فهل في وسع خامنئي احتواء «فتيان نيويورك» في سياق المحور الإيراني - الروسي الجديد المناوئ للولايات المتحدة؟
تشترك طهران مع موسكو في عدد من الأهداف؛ إذ ترغب كل منهما في الاستفادة من التراجع الأميركي في المنطقة في ظل إدارة الرئيس أوباما، والتأكد من عدم عودة الولايات المتحدة إلى الساحة الإقليمية في الشرق الأوسط كقوة مهيمنة وحاسمة. وترغب كلتا الدولتين، في هذا السياق، في احتفاظ بشار الأسد بمنصبه في سوريا، وإن كان لا يحكم إلا جيبًا صغيرًا متبقيًا من بلده، ولأطول فترة ممكنة. كما ترغبان في تعزيز النفوذ الذي تتمتع به إيران، وبدرجة أدنى روسيا، في العراق ولبنان مع بسط نفوذ سياسي مماثل على بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي.
وتحدث ولايتي، في موسكو يوم الاثنين، عن روسيا وإيران بوصفهما «حاميتي السلام والاستقرار» في منطقة غامضة وغير محددة المعالم، تلك التي تمتد من أواسط آسيا إلى شمال أفريقيا وحتى المحيط الأطلسي.
وتكمن المشكلة الحقيقية في انخفاض كبير لشعبية روسيا في الداخل الإيراني، في حين أن هناك عددًا ضئيلاً للغاية من المواطنين الروس ممن يهيمون عشقًا بالجمهورية الإسلامية. وفي حين أن تركيا استقبلت أربعة ملايين سائح روسي في عام 2015 فإن «السياحة الحلال» التي تروّج لها وسائل الإعلام الإيرانية لم تفلح إلا في اجتذاب بضعة آلاف من السائحين الروس. والتجارة المشتركة ما بين الدولتين الجارتين في أدنى مستوياتها بسبب أنه ليس لدى روسيا شيء مما تحتاج إيران لشرائه، كما أن الإيرانيين ليس بمقدورهم صرف أنظار الروس عن المنتجات الغربية بحال.
هناك تقليد إيراني - روسي قديم يمتد عبر قرون طويلة من الشكوك المتبادلة، وكان أحد تأثيرات ذلك التقليد فشلهما سويًا، بعد مرور 25 عامًا من المفاوضات الثنائية، في إقرار نظام قانوني مشترك بشأن بحر قزوين.
ولأكثر من 25 قرنًا من الزمان، كانت «النظرة التاريخية» الإيرانية تتطلع صوب الغرب، في حين كانت روسيا، الوافدة الجديدة على تاريخ العالم كدولة قومية ذات سيادة، تيمم ناظريها شطر الغرب كذلك منذ القرن التاسع عشر على أدنى تقدير.
وأخيرا، فإن النزعة المعادية المجردة لكل ما هو أميركي ليست كافية بحال لبناء استراتيجية عالمية جديدة بالنسبة إلى إيران أو روسيا. ومناورة «التطلع شرقا» الخامنئية ليست إلا فشلاً ذريعًا حتى قبل ترجمتها واقعيًا إلى سياسات راسخة وملموسة.