العرب.. إلى أين؟

العرب ضائعون يتخبطون هذه الأيام وأنا مثلهم ضائع أتخبط. ربما كانوا يعيشون الآن أحلك لحظات حياتهم. هناك حيرة كبرى تلف العرب، هناك رعب يحيط بهم من المحيط إلى الخليج.. بالطبع هناك أقطار أكثر استقرارا من أخرى وأفضل وضعا أو قل لم تنفجر بعد. ولكن «كلنا في الهوى سوا» كما يقول المثل الشعبي. هناك جوع وحروب أهلية وبطالة وعطالة وشباب رائع بلا أمل ولا عمل. هناك شبح هائل يخيم على العرب. هل هو ديناصور؟ هل هو وحش الوحوش؟ هل هو سوء الطالع وضربة القدر؟ وهذا يذكرني بفيلم فرنسي قديم عنوانه: «خوف فوق المدينة». وهو فيلم قوي بطله جان بول بلموندو. وكم رأيته مرات ومرات وأنا قابع في غرفتي الصغيرة «كالنمس» مستمتعا بأنني خارج دائرة الخطر. ربما لهذا السبب أحب الأفلام البوليسية. أنا نفسي تحولت مؤخرا إلى فيلم بوليسي بل وإلى مسلسل جهنمي له بداية وليس له نهاية. إنها لأعجوبة أنني لا أزال أتنفس وأتفلسف عليكم. ولكن إلى متى؟ أنا واثق أن مشكلة فلسطين ستحل قبل مشكلتي الشخصية. ربما كان التشبيه الأفضل هو مع كتاب المؤرخ الفرنسي جورج لوفيفر «الخوف الكبير لعام 1789». وفيه يصف ذلك الرعب الهائل الذي عاشه الفرنسيون أيام روبسبيير ورفاقه حيث أصبح كل واحد خائفا على نفسه، ولم يعد هناك أي أمان أو اطمئنان على وجه الأرض الفرنسية. إنها مرحلة انعدام الوزن واختلال الجاذبية. والمشكلة هي أن هذا الوضع قد يستمر زمنا طويلا. فالحالة الفرنسية لم تستقر إلا بعد مائة سنة على اندلاع الثورة. نقول ذلك رغم أنه مهّد لها فكر قوي جبار على عكس انتفاضات الربيع العربي. وبالتالي ربما كنا نحن العرب لا نزال في بداية البدايات. لقد مهد لها فلاسفة الأنوار وبالأخص جان جاك روسو الذي بلور تفسيرا جديدا رائعا للدين. صحيح أنه دفع ثمنه باهظا ولكنه على الأقل رأى ما لا يرى بالعين المجردة ودشن الأزمنة الحديثة. لقد رأى بواسطة راداره الفلسفي الذي يشق الظلمات كل ما سيحصل بعد موته. ومعلوم أن فلسفته الرائعة عن التدين المستنير والتربية الحديثة اللاقمعية والسياسة الديمقراطية تحققت على مدار المائتي سنة القادمة التي تلت وفاته. وكفاه ذلك فخرا. هو عاش في الظلمات والرعب والملاحقات البوليسية والأجيال القادمة قطفت الثمار. لقد احترق لكي يضيء للآخرين الطريق. وما كان يريد أكثر من ذلك. كان سعيدا جدا بذلك. وهكذا أعطانا درسا أخلاقيا عاليا وأي درس! وبعده تنبأ تلميذه إيمانويل كانط بتشكيل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الكوزموبوليتي قبل أن يحصل ذلك بمائتي سنة أيضا. ومن حققه؟ تلميذه النجيب الرئيس الأميركي المحترم ويلسون. وهذا ما برهن عليه هابرماس في كتابه الممتع «السلام الدائم. حول الذكرى المئوية الثانية لفكرة كانطية». من يقرأه يعرف معنى فلسفة التاريخ وكيف يستبق الفيلسوف الكبير على التاريخ ويرى إلى بعيد البعيد. أما نحن المثقفين العرب فلا نرى إلى أبعد من أنوفنا هذا إذا ما رأينا شيئا!
ينبغي العلم بأن التراكمات الثقيلة الموروثة عن الماضي تضغط علينا. ولا يوجد فكر قوي قادر على مواجهتها وتحليلها. بل إن الكثيرين ينكرون حتى وجودها وقد يمنعونك من التحدث عنها بحجة أنك تثير المشاكل والبلبلات. وهنا تكمن الطامة الكبرى. معظم مجتمعاتنا مكبوتة تاريخيا: كبت ديني وكبت سياسي وكبت لغوي وربما كبت وجودي أنطولوجي. نضيف إلى ذلك الفكر المؤدلج العقيم الذي حشا عقول شبابنا بأفكار استلابية عن الذات والآخر يصعب تخليصه منها. فكيف يمكن لمجتمعات كهذه ألا تنفجر؟ الضغط يولد الانفجار. متى سيفرغ التاريخ العربي كل أحشائه ومكبوتاته؟ لا أحد يعرف. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال: هو أن الفكر العربي سوف يدفع ثمن شعاراته وأدلجاته العمياء باهظا. طيلة ستين سنة وهو يرفض خطاب الحقيقة والفلسفة العميقة. طيلة ستين سنة وهو يحتقر أعظم الفتوحات الفكرية التي تتالت على أوروبا منذ عصر النهضة بحجة أنها استعمارية إمبريالية. إنه لا يستطيع التفريق بين الحنطة والزؤان، بين الوجه التحريري الرائع للحضارة الغربية والوجه اللاأخلاقي المنحرف البشع. وهكذا ذهب الصالح بجريرة الطالح. هكذا ضاعت الطاسة وتشوهت عقلية الأجيال العربية التي أصبحت مؤدلجة أكثر من اللزوم. طيلة ستين سنة ونحن نستهزئ بمشروعية تنوير الفكر الديني الذي أدى إلى نشوء الحضارة والتسامح والتعايش. ولذا فقد الخطاب العربي مصداقيته ولم تعد له أي قيمة بعد كل ما حصل. وحده خطاب الحقيقة سوف يشفي العرب، سوف يضعهم على السكة الصحيحة.. ولكن من يتجرأ على الاقتراب من منطقة الحقائق الساخنة بعد كل هذا الكبت التاريخي الطويل؟ ربما انفجرت في وجوهنا كإعصار مدمر. أين هو الفكر العربي الذي سيشق السماء المكفهرة كنور وهاج؟ لا نزال في الانتظار. إذا كنا لا نستطيع أن نرى إلى الأمام بمسافة مائة أو مائتي سنة كبعض الفلاسفة الكبار فعلى الأقل لنحاول أن نرى إلى مسافة عشرين أو ثلاثين سنة قادمة. هل ذلك كثير علينا؟ لحسن الحظ فإنني وقعت مؤخرا على مفكر استراتيجي يشخص نوعية المرض العربي بشكل دقيق. يقول جيرار شاليان في كتابه الأخير «نحو نظام جديد للعالم». صفحة 192: «العرب بحاجة ماسة إلى ثورة عقلية كتلك التي حصلت في أوروبا إبان القرن الثامن عشر. وذلك بغية الشروع بالإصلاحات الاقتصادية والثقافية اللازمة». الترجمة الحرفية: من دون فلسفة تنويرية عربية لن يكون هناك مستقبل عربي. نقطة على السطر. الفكر الانغلاقي المهترئ المسيطر على العرب حاليا لن يؤدي إلى أي نتيجة. بل إنه سيزيد الطين بلة. إنه سبب الاستبداد والانسداد. لا يمكنك أن تصنع حضارة جديدة بفكر قديم أكل عليه الدهر وشرب. لذلك أقول بأن المسألة فكرية قبل أن تكون سياسية. ولن تحل سياسيا قبل مليون سنة إذا لم تحل فكريا أولا. وهذا ما لم يفهمه الحركيون السياسيون الذين يتحفوننا بإطلالاتهم السياسية الرائعة على شاشات التلفزيون كل يوم!