محمد بن حسين الدوسري
TT

الفكر الانعزالي وتطوره

في عالم تتجاذبه الأحداث المفتعلة والطبيعية ليتكون من خلالها الرأي في عالمنا المعاصر؛ وذلك عند حدوث مجموعة من التصرفات التي قد تهز الوجدان الإنساني المعتدل بيد أن تكويناً انسانيا آخر يجد في تلك التصرفات أنها انتقام وعدل الهي، فتنشأ عن ذلك حالات فكرية وكتابية تتجه إلى التبرير والتسويغ دينياً لتلك الأحداث فرحاً بها وتمسكاً في كونها بشائر للخير! ومن ذلك حادث تحطم الطائرة الروسية وموت جميع ركابها، وكذلك تلك الاحداث الطبيعية التي تنقل وسائل الاعلام اخبارها والتي تُخلف كثيرا من الدمار المدني والبشري على حد سواء. وتلك الأحوال الفكرية الكتابية منتشرة بشكل مهول في وسائل الاتصالات الحديثة والتي تؤثر بشكل مباشر وقوي وسريع وفعال.
ويجد الانسان القارئ بعين النقد لتلك الأحوال الفكرية الكتابية أن تلك الحالة الكتابية التي تمت فيها صياغة تلك الافكار هي مرحلة حقيقية وأساسية في مراحل تطور تغلغل الفكر الانعزالي عن المحيط الحقيقي والواقعي والتاريخي والمقاصدي والشرعي والنظامي والمآلي، وهذا الفكر الانعزالي هو طور من أطوار ومراحل الارتقاء لفكر التكفير والجهاد والقتال وتحقيق الصورة الهلامية لفكرة الخلافة، وفهم هذه المراحل والاطوار مهم جداً في فهم المنتج لتلك المراحل وهو القتل والتدمير والخلاص الروحي.
ولا يعني أن ما تمت صياغته غير صحيح، بل قد تكون حقائق واقعية وثابتة يقيناً، إلا أن تغلغل الفكر الأنعزالي الذي يُحيط بتلك الحالة الفكرية الكتابية والخلل العميق والجسارة والجرأة في فهم وتنزيل تلك الوقائع يجعلها تذهب إلى أقصى حدود اللامنطق والتناقض الواقعي لتلك الحقائق وترتقي بالفهم إلى مراحل متقدمة للتوافق مع ذلك الفكر الأنعزالي، ويندمج مع مرتكزات وأسس فكر التكفير الذي هو المنطلق الحقيقي لكل ما يحيط بالحالة الفكرية الكتابية من إرهاب وقتل وتدمير وتفجير. ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما قرره سفر الحوالي خلال الثمانينيات في تحليلاته السياسية، وكذلك ما بثه العودة في أشرطة "انتشار التنصير في بلادنا"، حيث إن تلك الأحداث والتصرفات كان لها وقع في نفوس المريدين؛ وذلك بزرع فجوة عميقة بين المريدين ووطنهم والسلطة الحاكمة، وقد أثرت تلك الرؤية على أولئك المريدين حتى حاضرنا؛ وهذا مُشاهد من خلال تفكيك أفكار من حولنا، وذلك بقبولهم ماضي منظري الصحوة والتوقف في فكر الصحويين الآني!
وهذه الحالة في الصياغة للمقالات أو المنشورات أو الخطب والمحاضرات كانت تُمارس خلال الثمانينيات من خلال الحوالي والعودة ومحمد قطب ومنظري الصحوة آنذاك وبعض من محاضري الجامعات، وكانت تلك الصياغات قد أحاطت بكثير من الشباب وعزلتهم عن المحيط الحقيقي والواقعي والتأريخي والمقاصدي والشرعي والنظامي والمآلي، إلا أن أصحاب تلك الحالة لم يريدوا لها أن ترتقي إلى أقصى حدودها لأنها تؤمن بالتمكين المتصف بالتدرج، وأعني بالتمكين المتصف بالتدرح هو طور من أطوار الفكر الانعزالي الذي يضع أقصى حدوده هو "قيام الخلافة".
إن تلك الحالة التي تتم فيها الصياغات الفكرية المنعزلة عن واقعها ومحيطها هي من أصعب المراحل التي قلما يتخطاها صاحبُ حالة فكرية كتابية أو مريدوه، وكشف تلك المراحل والانزلاقات ببيان خطورتها وفداحة تمكنها من العقل الجمعي للمريدين يحتاج إلى فهم عميق لتطور المراحل وتاريخها والواقع والمآلات والمقاصد من خلا ل أنظمة الدولة وفهم الواقع المكان وفهم الزمان وشرعية القواعد المنطبقة عليه سواءً كانت فقهية أم أصولية.
لذا فإن خطورة مقالات وصياغات فكرية تمس كل شرائح المجتمع كبيرة جدا قد يكون أقلها أن يؤمن بها شاب غر صغير فيمتلئ حنقاً على واقعه ومجتمعه وهو منعزل عنه من حيث الواقع والفهم والمآل والمقصد والشرع والنظام؛ فحينئذٍ لا يجد أمامه إلا "داعش" وما يحمله من فكر انعزالي، فإما أن ينخرط في ذلك التنظيم وإما أن يُفخخ نفسه ويُحدث دوياً لانعزاله. فماذا تُحقق تلك المقالات والصياغات الفكرية غير المنضبطة والمشحونة بالعاطفة إلا بعزلة تامة عن واقعها وشرعها ومقاصده وأغراضه وقواعده وأصوله.