محمد واني
كاتب من كردستان العراق
TT

ديمقراطية «الفوضى الخلاقة»!

لا شك في أن الديمقراطية بضاعة غربية خالصة، صنعت في المجتمعات الغربية، وترسخت جذورها بمرور الزمن، حتى أصبحت تقليدا سياسيا وثقافيا واجتماعيا صارما تسير عليه، وتنظم به حياتها العملية، وهي من أهم إنجازاتها الحضارية على الإطلاق، وقمة التطور الذي وصلت إليه البشرية، بحسب بعض مفكريها، وعلى رأسهم فرنسيس فوكوياما، الذي عدها «النهاية في التطور الاجتماعي والثقافي للإنسانية، والشكل النهائي للحكومات».
ربما هي فعلا كذلك بالنسبة إلى الغربيين، لأنهم توصلوا إلى هذه النتيجة بعد مخاض عسير وتجارب مريرة مع الأنظمة الملكية المطلقة والكنسية «الثيوقراطية» المتحالفة، وتتويج صراعهم المرير معها في النهاية بنصر حاسم غيروا به وجه تاريخهم، وأنهوا دور السلطتين المهيمنتين على حياتهم العامة والخاصة إلى الأبد، وكرسوا النظام الديمقراطي الليبرالي بعد أن خلت الساحة تماما من أي معتقد أو آيديولوجية منافسة..
إذن، فالديمقراطية ليست حالة طارئة في المجتمعات الغربية، بل هي جزء متأصل فيها، خرجت من رحمها بصورة طبيعية، وعبر مراحل تاريخية متعاقبة، من دون الحاجة إلى إجراء عملية قيصرية، أو اللجوء إلى المجتمعات الأخرى لاستيرادها، كما نحاول نحن فعله، أو مثلما تحاول الدول الغربية فرض نموذجها الديمقراطي علينا، ناسية أن مجتمعاتنا ما زالت تتقاذفها أنواع مختلفة من الثقافات والمعتقدات الدينية والطائفية والعرقية والإثنية، وتحكمها نوازع تاريخية متعددة، وتواجه إشكاليات جيوسياسية، وتحديات تخطتها المجتمعات الغربية منذ فترة طويلة بعد أن اتحدت جغرافيا واقتصاديا، وتغلبت على مشكلات الحدود، وقطعت علاقتها بالدين تماما (بعد الثورة الفرنسية 1789) وتخلصت من النزعة القومية (عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية واندحار هتلر).. وعندئذ فقط تفرغت تلك الدول لتطبيق الديمقراطية والعمل بها.
فعندما تحاول الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا، زرع تلك الثقافة في مجتمعاتنا، سواء بالحث والتشجيع أو بالقوة، وهي تدرك أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه مجتمعاتها من حضارة ورقي، ولم تذلل بعد العقبات الكبيرة التي تعترض طريق تقدمها، بل تعيش حالة جمود وخمود مطبقة لا مثيل لها، فإنها بذلك تحاول تدميرها ونسف بنيانها من القواعد، وبث الفتن والصراعات الداخلية فيها، وزعزعة استقرارها كما حصل في العالم العربي بعد ربيعه غير الزاهي؛ حيث دمرت دول بكاملها، وتفككت أوصالها، وشردت شعوبها وخضعت لأبشع عملية قتل جماعي لمجرد أن البعض يريد أن يغير بعض أنظمتها القمعية الديكتاتورية، ويطبق مكانها الديمقراطية التي بشرت بها الولايات المتحدة في مشروعها الاستراتيجي للمنطقة؛ (الشرق الأوسط الجديد).
فبمجرد أن نفذت أميركا استراتيجيتها على الواقع، وطبقتها على (ليبيا وسوريا واليمن ومصر والعراق)، تحولت «نسائم الديمقراطية» الرطبة الحلوة إلى إعصار دمر كل شيء جميل في هذه الدول، وأتى على بنيانها وحوله إلى حطام.. وبدل أن تكون «الديمقراطية» مصدر سعادة ورفاه، وعامل استقرار للمجتمع كما هو الحال في المجتمعات الغربية، تحولت إلى مصدر شقاء وبؤس لمجتمعاتنا، وأدت إلى ظهور حركات وأحزاب وجماعات طائفية إرهابية، ما أنزل الله بها من سلطان، تعيث في الأرض قتلا وفسادا.
قد يوجد بعض الهوامش الديمقراطية في المنطقة، ولكن هوامش شوهاء تستعمل من أجل تكريس سلطة طائفية أو حزبية معينة. كل الخطط والمحاولات الغربية الحالية لفرض نموذجها الديمقراطي على منطقتنا لن تفلح ما دامت تئن وترزح تحت الكم الهائل من المعتقدات والثقافات والآيديولوجيات التي تأخذ قوتها وديمومتها من التاريخ وأحداثه المتشعبة.