باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

حرب باردة دولية جديدة

لو أن الغارات الأميركية والدولية على «داعش»، طوال سنة قضت عليها أو أضعفتها. ولو أن الجيشين السوري والعراقي لم يعجزا عن استرداد الأراضي التي احتلها هذا التنظيم. بل لو كانت فصائل المعارضة السورية المدنية والمقاتلة موحدة الصفوف والأهداف وكانت الدول الكبرى المنددة بنظام الأسد جادة في مد المعارضة بالأسلحة الممكنة من الانتصار عليه.. ترى كان بوتين أقدم على ما أقدم عليه مؤخرا ونعني النزول بطائراته وصواريخه وجنوده إلى ساحة الحرب في سوريا؟
صحيح أن روسيا وإيران لم ينتظرا أربع سنوات كي يسفرا عن دعمهما للنظام السوري. ولكنه كان دعما سياسيا دوليا ومساعدات عسكرية مكتومة. أما الآن فإن التدخل الروسي بهذا الشكل أعطى المعارك - الدائرة على الأرض السورية أبعادا جديدة: حجما ومدى وخطورة. أو بتعبير آخر: وسع نطاقها ومد في عمرها وضاعف من عنفها.
لقد تعددت الاجتهادات في تفسير «ضربة» بوتين الأخيرة في سوريا. فثمة قائل بأنها جزء من الحرب الباردة التي تخوضها روسيا ضد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أوكرانيا وشرق أوروبا. وآخرون راحوا يتحدثون عن دور الكنيسة الأرثوذكسية التي لم تهضم بعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين المسلمين وتطمح إلى لعب دور الحامية للمسيحيين المشرقيين. والبعض الآخر ركز على مخاوف بوتين من أن يؤدي قيام «خلافة» في المشرق إلى تحريك مسلمي روسيا البالغ عددهم ثلاثين مليونا، وهناك واقعيون يقولون إن موسكو لا تريد أن تفقد حليفا تقليديا أتاح لها إنشاء قاعدة بحرية عسكرية على شاطئ البحر المتوسط الشرقي. وثمة من يرجع هذه المغامرة البوتينية العسكرية الجديدة إلى أسباب داخلية هدفها تعزيز مكانته السياسية واستباق ردات فعل المعارضة السلبية إزاء الركود الاقتصادي المحتمل بعد تراجع أسعار النفط.
ولكن أيا كانت الأسباب والدوافع التكتيكية أو الاستراتيجية وراء هذا التدخل الروسي، فإن السؤال الحقيقي يبقى: وماذا بعد؟
الدول الكبرى منقسمة على بعضها بشأن إنهاء المحنة السورية. كذلك - لسوء الحظ - الدول العربية والإسلامية. ولكنها متفقة - ظاهريا - على ضرب الإرهاب المجسم - حاليا - في «داعش». غير أن الدوائر الغربية تؤكد أن التدخل العسكري الروسي يركز ضرباته على المعارضة السورية المعتدلة، أكثر بكثير من توجيه الضربات إلى «داعش». وهذا دليل على أن ضرب «داعش» ليس الهدف القريب أو البعيد لبوتين، بل إنقاذ النظام السوري. فهل يكون الرد الدولي والعربي على ذلك ترك الروس يغرقون في حرب على «داعش» تتعدى أبعادها سوريا؟ أم يكون الرد بتعزيز المعارضة المعتدلة بالسلاح وشتى أنواع الدعم؟
إن أخطر ما في المأساة المصيرية السورية هو تشابك المصالح الدولية والإقليمية والوطنية والطائفية فيها، وصعوبة تبصر الخيط أو الزاوية التي يجب الابتداء منها لحلحلة أو فك هذه التشابكات. هل هو تحقيق انتصار أحد الأفرقاء المتقاتلين على الأرض السورية؟ وأي فريق؟ فريق بوتين - إيران – النظام؟ أم فريق الدول الغربية - الدول العربية - الشعب السوري؟ أم بقاء الأمور على ما هي عليه سنوات، بانتظار حدث ما أو سانحة دولية ما، «يزمط» من خلالها المصير السوري؟ لقد تحدث وزير الدفاع الأميركي عن خطة لتدريب مقاتلين تابعين للمعارضة المدنية المعتدلة تمتد على ثلاث سنوات.. ولكن هل يبقى في سوريا بشر أم حجر بعد ثلاث سنوات من القتال بالطائرات والصواريخ؟
لا شك في أن القضية السورية - إذا لم نقل قضية الشرق الأوسط - دخلت بعد هذا التدخل الروسي العسكري الأخير، حقبة جديدة أوسع أبعادا وأخطر شأنا، وأوفر هدرا للدماء، وتدميرا لما تبقى من معالم الحياة والتاريخ في البلد، الذي قيل عنه يوما إنه «قلب العروبة النابض» والذي تحول اليوم إلى جرح المشرق العربي المفتوح.
صحيح أن ما يجري في العراق واليمن وليبيا لا يقل خطورة عن المعاناة السورية، ولكن خطورته تبقى أخف من خطورة الصراعات الدائرة في سوريا. بحكم موقعها الجغرافي، وتكوين هويات سكانها وتنافس الدول الكبرى والإقليمية على اجتذابها. وتمسك إيران بنفوذها فيها كحلقة رئيسية في مشروعها الإمبريالي المشرقي.
قد يكون الحل أو المخرج أو الإنقاذ، يقول البعض، هو في عقد مؤتمر دولي يضم الدول الكبرى والدول الإقليمية النافذة - أي السعودية ومصر وتركيا وإيران - ولكن هناك أفقا آخر بدأت بعض مراكز الدراسات تتحدث عنه، وهو تصعيد القتال في سوريا للوصول به إلى حرب باردة دولية جديدة بين الشرق والغرب وربما إلى عتبة حرب عالمية ثالثة.