في بداية تسعينات القرن الماضي، دعت سويسرا عددا من كتاب العالم لزيارتها وكلفت كلا منهم بالإجابة عن سؤال واحد. على أن تنشر هذه الإجابات - المقالات في كتاب بمناسبة الاحتفال بمرور سبعمائة عام على الاتحاد السويسري. كان السؤال الذي وجه إليّ هو: ما الذي يجعل السويسريين.. سويسريين؟
باحثا عن الإجابة، زرت قطاعاتها الثلاثة؛ الألماني والفرنسي والإيطالي فتعلمت درسا مهما هو أنه من الممكن قيام الوحدة مع التعدد. طلبت من المسؤول عن الرحلة أن يخفف من لقاءاتي مع كبار الكتّاب والفنانين، أريد أن أتكلم مع الشباب. وفي لوجانو زرت مدرسة ثانوية، كانوا يدرسون باللغة الإيطالية بالطبع. سألتهم: ماذا تدرسون في الأدب؟
فأجابوا: ماكيافيللي؟
أذهلتني إجابتهم فسألتهم مرة أخرى: في الأدب..؟
فكانت إجابتهم بنعم.. اقتربنا من بعضنا البعض أكثر وأكثر وأنا أناقش معهم كتابيه الشهيرين «الأمير» و«المحاورات». للأسف أنا لم أقرأ مسرحياته الفكاهية لأنها ليست متاحة بالإنجليزية. كنت أناقشهم وأنا أفكر في المسؤول الذي قرر عليهم دراسة هذا المفكر في مقررات الأدب. في الواقع هو يضرب عدة عصافير بحجر واحد. لأن ماكيافيللي كاتب أديب وفنان في الدرجة الأولى، بعد ذلك تأتي أهميته كمفكر سياسي ورجل دولة. وبذلك يتحقق لدى واضع المنهج هدفان؛ الأول هو دراسة الأدب والثاني هو دراسة السياسة مع الحرص على أن تتسلل أفكار الكاتب السياسية إلى أذهانهم بشكل عفوي.
في القطاع الألماني لفتت نظري ظاهرة غريبة، هناك حفاوة كبيرة بحدوتة شعبية قديمة هي «ويليام تل». الحكاية تقول إن إقطاعيا في عصر قديم كان يملك قرية وما عليها من زرع وضرع وبشر، وحدث أنه كان يمر في القرية فلاحظ أن شخصا لم يخلع قبعته احتراما له. كان هو ويليام تل الذي اشتهر في القرية ببراعته في الصيد بالسهام. عقابا له جاء بطفله وأوقفه ووضع تفاحة على رأسه وطلب منه أن يصيب التفاحة من على بعد كبير وأعطاه سهما واحدا، الخطأ في التصويب يعني موت ابنه. ولكن ويليام تل أصاب التفاحة.
في الجزء الألماني أينما تذهب ستجد تمثالا لويليام تل.. في المطاعم في الشوارع في الفنادق.. لماذا كل هذه الحفاوة بحكاية شعبية قديمة. أحسست أنني أقترب من السؤال الذي كلفت بالإجابة عنه. اللاوعي الجمعي هو الذي قام بتأليف هذه الحكاية، غير أن الوعي هو الذي اهتم بتذكير الناس بها في كل مكان.. آه.. نعم.. الإتقان.. لديك سهم واحد إذا لم تصب به الهدف فستفقد أعز ما لديك.. هذه هي رسالة الأجداد إلى الأحفاد في سويسرا. ما يجعل السويسريين سويسريين هو الدقة والإتقان. ويليام تل يرقد داخل عقل وقلب كل منهم. أمر آخر، إذا أمعنت النظر في القوس الذي استخدمه ويليام تل، الذي يحرص أطفال المدارس على أن تلتقط لهم الصور في متحفه بجوار تمثاله، ستجده أقرب الأشكال إلى الصليب. الإتقان هنا ليس مرتبطا بالشرف الشخصي فقط، ولا بنجاة أحبائك، بل هو مرتبط بالعاطفة الدينية أيضا. في غياب الإتقان والإنجاز عند شخص ما، من الصعب عليّ أن أعتقد أنه يؤمن بشيء.
8:2 دقيقه
TT
السهم والتفاحة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة