وافقت الجمعية الأنثروبولوجية الأميركية، الاثنين، على قرار بمقاطعة مؤسسات أكاديمية إسرائيلية. وأكدت الجمعية لـ«نيويورك تايمز» أنها لم تصدر مثل هذا القرار تجاه أي من المؤسسات الأكاديمية بأي بلد آخر، حتى روسيا. وفي ظل الظروف العادية، كانت مثل هذه الإشارة غير الليبرالية والموجهة على نحو غريب، لتثير غضبي الشديد.
أما اليوم، فلا أملك سوى التساؤل: «لماذا عليَّ الانشغال ببعض الأذى الذي يحاول بعض علماء الأنثروبولوجيا الضعفاء إلحاقه بالدولة اليهودية، بينما هذه الدولة تفعل بنفسها ما هو أسوأ بكثير؟».
وتزامن قرار الجمعية الأنثروبولوجية الأميركية مع تصويت الكنيست الإسرائيلي لتمرير تشريع مثير للجدل يحد سلطة القضاء. ويعد هذا الأمر كارثة حقيقية لإسرائيل، ليس لأن التشريع المطروح «مناهض للديمقراطية»، وإنما لأنه يجرد البلاد من أقوى أسلحتها على الإطلاق: الولاء الشديد من جانب مواطنيها الأكثر إنتاجية وانخراطاً في الحياة المدنية.
بفضل هؤلاء المواطنين؛ رواد الأعمال بمجال التكنولوجيا، وجنود الاحتياط في سلاح الجو والروائيين والأطباء الذين ينعمون بشهرة عالمية، تقف إسرائيل على قدم المساواة مع سويسرا وسنغافورة، باعتبارها دولة صغيرة رغم أنها غير مثالية، فإنها مرتبطة بالتميز والتفوق في عشرات المجالات.
من دون هؤلاء المواطنين، ستجد إسرائيل نفسها في نادي المجر وصربيا: بلد صغير ومنعزل وفاسد إلى حد ما ويتسم ببراعة خاصة في الإبقاء على مظالمه.
ولذلك، فإن تفاصيل التشريع المطروح تبدو أقل أهمية من الأسلوب الذي جرى به طرحه، ودوافع من يتزعمونه. في الجزء الأكبر منهم، يمثل هذا الفريق، المواطنون الأقل إنتاجية وانخراطاً داخل إسرائيل؛ اليهود الأرثوذكس المتشددون الذين يرغبون في الحصول على إعفاءات من الخدمة العسكرية وإعانات رفاه، والمستوطنون الذين يرغبون في أن يتحولوا إلى قانون فوق القانون نفسه ومفكرون آيديولوجيون داخل مراكز بحثية. ويطمح هذا الفريق لاستغلال أغلبيته المؤقتة لضمان نيل إعفاءات واستحقاقات وحصانات وامتيازات أخرى تحول مبدأ المساواة أمام القانون إلى نكتة.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن فكرة الإصلاح القضائي تخلو من الميزات، على الأقل من الناحية النظرية. في الواقع، تتسم إسرائيل بسلطة قضائية قوية على نحو استثنائي، وحصلت لنفسها، على امتداد عقود عدة، على سلطات لم تمنح لها ديمقراطياً قط، وتعتبر ذات طابع سياسي خالص في بلاد أخرى، مثل الحكم على مدى «معقولية» التعيينات والإجراءات الوزارية. وكان مبدأ «المعقولية» موضوع تشريع الاثنين.
في الوقت ذاته، تفتقر إسرائيل إلى دستور مكتوب يحدد بوضوح، مثلما الحال في أميركا، الفصل بين السلطات. بجانب ذلك، لا توجد لدى إسرائيل رقابة مؤسسية حقيقية على السلطتين التنفيذية والتشريعية بخلاف المحكمة العليا.
وتتولى المحكمة ضمان احترام حقوق الإنسان والحقوق المدنية وحقوق المرأة والأقليات، على نحو تعجز عنه أي أغلبية برلمانية.
في ظل قيادة رئيس وزراء أكثر اهتماماً بتجنب المشكلات من بنيامين نتنياهو، ربما كانت لتنجح الحكومة والمعارضة في التوصل لحل وسط قادر على كبح جماح القضاء من دون الإضرار به، على نحو لا يمنح أياً من الطرفين انتصاراً كاملاً، ويحافظ في الوقت ذاته على إجماع اجتماعي واسع.
من جهته، قضى إسحاق هرتسوغ، رئيس إسرائيل، شهوراً في العمل مع مستشارين قانونيين لصياغة مقترحات كانت لتحقق ذلك بالضبط.
إلا أنَّ الهدف من التشريع ليس الإصلاح، ناهيك عن خلق حالة من الإجماع، وإنما محاولة لممارسة السلطة السياسية الخام أقدم عليها مشرعون عاقدون العزم على نيل الإفلات القانوني من العقاب من جانب محكمة حاولت محاسبتهم. ولم تكن إسرائيل لتصل لهذه الحالة من الانهيار الوطني، لو لم يحاول نتنياهو التنصل من لائحة اتهامه الجنائية، عبر التشبث بالسلطة في ائتلافه المكون من متعصبين وفاسدين وتابعين ومتطرفين.
رجل الدولة بحق يضحّي بنفسه من أجل أمته، أما الزعيم الديماغوغي فيضحي بأمته من أجل نفسه.
بعض الأحيان، توصف الأزمة في إسرائيل باعتبارها معركة اليسار ضد اليمين، والعلمانيين ضد المتدينين، واليهود الغربيين ضد اليهود الشرقيين. في الواقع، هذا مجرد تعميم مفرط، فنتنياهو سليل النخب الأشكناز العلمانية، في حين أن الكثيرين في المعارضة، مثل رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، ملتزمون دينياً وينتمون لليمين.
الحقيقة أن الانقسام الجديد داخل إسرائيل، لم يعد بين الليبراليين والمحافظين، وإنما بين الليبراليين وغير الليبراليين. إنه انقسام بين أولئك الذين يعتقدون أن الديمقراطية تشمل مجموعة من المعايير والقيم والعادات التي تحترم وتفرض قيوداً صارمة على السلطة، وأولئك الذين يعمدون إلى محاولة استغلال أغلبيتهم لفعل ما يحلو لهم في الأمور السياسية، حتى يتمكنوا في النهاية من فعل ما يحلو لهم في الأمور القانونية.
وربما بسبب التاريخ الطويل لنزع ملكية اليهود، يبدو أن الكثير من الإسرائيليين منتبهون بشدة للخطر القائم. وفي إطار ذلك، كشف استطلاع للرأي، الأسبوع الماضي، شمل 734 من المؤسسين والرؤساء التنفيذيين الإسرائيليين للشركات الناشئة والمديرين الإداريين لشركات رأس المال الاستثماري، عن أن أكثر من ثلثيهم اتخذوا بالفعل خطوات لنقل أصولهم خارج إسرائيل، تحسباً لصدور القانون الجديد.
علاوة على ذلك، حدثت زيادة كبيرة في أعداد الإسرائيليين الساعين للحصول على جوازات سفر ثانية.
الواقع أن التحديات الديموغرافية لإسرائيل معروفة جيداً، لكنّ ثمة تحدياً ضمن التحدي الكبير: إذا كان الأشخاص الذين جعلوا إسرائيل «أمة الشركات الناشئة» يتجهون نحو الخروج من البلاد، فإن الأساس طويل المدى الذي تقوم عليه قوة إسرائيل سيتآكل حتماً. ولن تنقذ الصلوات إسرائيل إذا كانت تفتقر إلى اقتصاد من الطراز العالمي قادر على الحفاظ على جيش مهيمن إقليمياً.
بوجه عام، يميل الإسرائيليون نحو المبالغة، وقد أثارت أحداث هذا الأسبوع الكثير من أصوات الرثاء والتحسر على «نهاية الديمقراطية الإسرائيلية»، لكني أراها دعوة غير مبررة للشعور باليأس لا تخلو من مبالغة.
* خدمة «نيويورك تايمز»