داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الصين... تنافس دولي مدروس

استمع إلى المقالة

يروي الصحافي الصيني جيانغ بينغ أنه في عام 2002 قام الملياردير الصيني لي كا شينغ -وهو أحد أنجح متعهدي المشروعات في آسيا- بتأسيس كلية «تشيونغ كونغ» لإدارة الأعمال في بكين، بهدف تخريج نوع جديد من الرواد الصينيين العالميين. وكانت هذه هي البداية لتحسين إدارة الصين لثرواتها الواسعة، وتحول الصين إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأميركية. وأكثر من ذلك، صارت الصين مركز تصنيع للعالم متخصصاً في الاعتماد على الأيدي العاملة الصينية الرخيصة نسبياً، وتصدير السلع بأسعار خارج المنافسة لجميع دول العالم، مع أن الفقر كان يعمّ هذه الدولة الكبيرة مساحة وسكاناً وثروات وتاريخاً.

وتحقق ما قاله نابليون الأول في سجنه في جزيرة سانت هيلين البركانية، الواقعة في المحيط الأطلسي والتابعة لبريطانيا. وهي اشتهرت بسبب نفي نابليون بونابرت إليها خلال الفترة من عام 1815 حتى وفاته في عام 1821. ماذا قال نابليون في ذلك التاريخ؟ قال: «اتركوا الصين نائمة، فهي عندما تستيقظ سيرتجف العالم كله»! قيل عن العلاقات الأميركية – الصينية إنها العلاقة «الأكثر أهمية» في العالم، أو توصف هذه العلاقات بأنها بين «الاثنين الكبار» في النظام الدولي.

والصين اليوم -كما تقول إحدى الدراسات العليا- هي أهم قوة صاعدة على الصعيد العالمي. وحاولت الولايات المتحدة تطويق هذا الصعود الصيني والحيلولة دون خروجه من «مظلة الهيمنة الأميركية» على الرغم من أن واشنطن لم تستطع في يوم من الأيام فرض هذه الهيمنة المزعومة. إلا أن قضية مطالبة الصين بتايوان ربما تضفي نوعاً من التوتر على العلاقات المشتركة. وغمزت واشنطن في الفترة الأخيرة من علاقات بكين بموسكو على أسوار الحرب الروسية – الأوكرانية.

وتشير التقديرات الحسابية إلى أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز نظيره الأميركي في عام 2028، بدلاً من عام 2033 كما كان متوقعاً سابقاً.

وقد نجحت كليات إدارة الأعمال في بكين في تخريج طلبة لا تهمهم كثيراً زيادة قيمة أموال المساهمين بقدر ما تهمهم الحيوية وروح الاندفاع والمنافسة، وليس التركيز على الأرقام والحسابات فقط، وإنما يضعون أمامهم أيضاً البيئة والثقافة والرعاية الاجتماعية المستدامة أيضاً. الآن شركة «علي بابا» -وهي صينية- مثال على الابتكارات التجارية الناجحة. بل سعت بكين إلى تأسيس نظير صيني لشركة «غوغل» للمعلومات والاتصال الاجتماعي بلغات مختلفة. ودخل عمالقة الصين في صراع مباشر مع شركة «أمازون» الأميركية في تجارة التجزئة عبر الإنترنت وتكنولوجيا الذكاء الصناعي.

انتبهت بكين في العقد الأخير إلى أنها بحاجة إلى درجة أعلى من التحرر في القطاعات الاستراتيجية التي لا تزال تحت سيطرة الدولة. وما زالت بعض الدول تتوسع في الاستثمار الخدمي أو تنافس الشركات التجارية على استيراد السلع أو إقامة «المولات» والفنادق، وهي استثمارات تفتقد الدولة كيفية إدارتها وتحسين خدماتها. وأضرب مثلاً بالعراق، حين كان القطاع العام يحشر نفسه في كل شيء من مضرب التنس إلى السيارات، وينتج كل شيء من «الطرشي» إلى «اللبن» إلى المشروبات الغازية إلى صابون الغسيل إلى أحذية «باتا»!

يقول الصحافي الصيني جيانغ بينغ، إن جزءاً من هذه الخلطة «له علاقة بطريقة تفكيرنا»؛ فمنذ حروب الأفيون في القرن الثامن عشر بين الصين وبريطانيا، بسبب محاولات صينية للتصدي لتجارة الأفيون التي كان يمارسها تجار بريطانيون بشكل غير مشروع، وأدت إلى ظهور مشكلات اجتماعية واقتصادية خطيرة، قررت بكين مصادرة وتدمير هذه التجارة الانتحارية.

إن جزءاً من التفكير الصيني الحالي والسابق يتطلع إلى الغرب، بحثاً عن نماذج وحلول جديدة. حتى النظرية الماركسية استوردتها الصين من الغرب، وتقوم نظرية كارل ماركس على «أن هناك فئتين اجتماعيتين رئيسيتين في جميع المجتمعات الطبقية، هما الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، وتستمد الأولى قوتها من ملكيتها وسيطرتها على قوى الإنتاج، فتستغل الطبقة المحكومة وقد تضطهدها». لم يكن كارل ماركس روسياً، فقد ولد في ألمانيا وتوفي في لندن، وهو فيلسوف وعالم اجتماع وقانوني وناقد سياسي وصحافي متمرد.

وهناك الآن فكرة مزدوجة في الصين تشجع على البحث عن نماذج وحلول جديدة، قد تكون ذات مفهوم غربي. وثمة دعوة إلى تخطي فكرة المؤسسات التي تديرها الدولة، أو الشركات العائلية المنغلقة على نفسها وتتوارث ما هو فيها عائلياً. لكن كل هذا بكف، والشركات متعددة الجنسيات في كف أخرى، ولها مقرات في الصين مثل شركات صناعة سيارات: «تويوتا»، و«ميتسوبيشي»، و«سوبارو» اليابانية، وشركات كورية جنوبية أيضاً مثل سيارات: «هيونداي»، و«كيا»، وعلامات تجارية غذائية، مثل: «ماكدونالد» و«كنتاكي»، و«بيتزا»، وبعض هذه المطاعم تخطى عدد فروعه الألفين في الصين!

حين نصل إلى تعدد الجنسيات في هذه القطاعات فنحن نتحدث في السياسة وليس في الاقتصاد فقط. والسياسة هنا: «مرحباً أيها السلام... وداعاً أيتها الحروب». أي أن الاقتصاد يمكن أن يكون وسيطاً أفضل من الأمم المتحدة أو الحكومات أو المنظمات الدولية أو رؤساء دول. فالاقتصاد لا يوقف إطلاق النار فقط، وإنما يمنع تجدده مرة أخرى. وهذه السياسة تبيع وتشتري؛ ليس سلعاً فقط وإنما أفكاراً وابتكارات وتعايشاً مع شعوب أخرى في قارات بعيدة بمجرد لمسة إصبع على جهاز الجوال.

قرأت أن الشركات الصينية تهتم بالمسؤولية الاجتماعية عن الإسكان والمستشفيات والتعليم والجمعيات الخيرية، مثلما تفعل اليابان والدول الأوروبية والأميركية الشمالية والجنوبية والأسترالية. إنها سلسلة مترابطة قد نسميها تحسين إدارة الثروات، وتنفيس الأزمات، وتجديد البيئة والثقافة، والعلاقات العامة.

من مشكلات إدارات التصنيع الصينية التي يعترف بها المديرون أن شركاتهم الخاصة أو الحكومية لا تحسن كثيراً الاهتمام بموظفيها، مقارنة مع موظفي الشركات اليابانية أو الكورية الجنوبية. ومن الصعب المقارنة بين التكنولوجيا الصينية واليابانية؛ لأن الأولى تفوقت في العقدين الأخيرين في تكنولوجيا الهواتف الذكية، بينما الثانية بدأت مشوار التصنيع الثقيل في مرحلة مبكرة، حتى قبل الحرب العالمية الثانية التي أدت فيها الطائرات الحربية اليابانية دوراً خطيراً جداً في قصف القوات الجوية والبحرية الأميركية، قبل أن تُنهي واشنطن الحرب بالقنبلتين الذريتين الأميركيتين.

الصين دولة صديقة للعرب، ولذلك نتمنى لها أن تكون دولة عظمى على طريق التعاون العربي الصيني، والوسيط المنصف في الحروب والنزاعات الدولية والإقليمية.